الكاتب الأردني الفلسطيني / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان "الطفولة ليست سلعة"



 


 لطالما كان الظهور في وسائل الإعلام مقتصراً على البالغين، فلم يظهر الأطفال إلا في إطار ٍ محدود بشكلٍ ثانوي بإستثناء أعمالٍ مخصصة لهم، فكان بعضها ناجحاً والبعض الآخر أقل بكثير مما ينبغي أن يكون عليه، لكنه ظل في الإطار العام المتعارف عليه لبرامج الطفل في العالم العربي رغم اختلاف الثقافات وتقديم نسخ مختلفة مستوحاة من برامج أوروبية خاصةً من فرنسا وإيطاليا وأحياناً من ألمانيا، أو تقديم برامج بنسخ خاصة لثقافات هامة تشاركنا حياتنا ولها كل التقدير كالأرمن والأكراد والأمازيغ وغيرها من الثقافات التي تسعى إلى الحفاظ على هويتها الأم إلى جانب الثقافة العربية التي تعيش معها..


وكانت طريقة التفكير بشكلٍ عام تتعامل مع الأطفال كتابع أو تحصيل حاصل فلم تكن تتحدث عن مشاكله أو صعوبات التعلم أو التربية أو غيرها من المشاكل التي يواجهها ويواجهها والداه معه يومياً، كما أننا لو عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً خاصةً في عقدي الثمانينات والتسعينات سنجد ضمن الأعمال الفنية السينمائية أو الأفلام الوثائقية مشاهداً متعددة سواءاً كانت ضمن عمل درامي أو جزءاً من فيلم تسجيلي يتم تصويره في مناطق شعبية مختلفة تظهر الأطفال عراةً في بعض اللقطات العابرة (وإن كانت بطريقة غير مباشرة) كجزءٍ من تصوير حياة الطبقات المهمشة، وهذا ما تم حظره لاحقاً حول العالم في صورةٍ لتطور الوعي والذوق العام وثقافة حماية الطفل وحماية جسده من الإنتهاك وظهوره دون رغبة ٍ أو إدراك منه تحت أي مسمى كان، فكانت تلك خطوةً جيدة تشدد على أهمية احترام الطفل وجسده ككائن كامل ومستقل وحمايته من أي شكل من أشكال التسليع أو الإتجار أو التحرش والتعامل معه بما يتنافى مع طفولته، وهو ماكان محل تندر بيننا في ثقافتنا الشعبية حيث جرت العادة في الكثير من بلادنا على تصوير الأطفال عراة خاصةً في شهورهم الأولى..


لكن اليوم ومع تغير الزمن وتطوره واختفاء الكثير من المظاهر التي تم ذكرها وتراجع تلك العادات وانحسارها، رأينا جميعاً ظهوراً مختلفاً للأطفال عبر شبكة الإنترنت وصفحات مواقع التواصل الإجتماعي والتي تدار على الأغلب من قبل الوالدين أو حتى تحت اشرافهم في شكل من أشكال استغلال طفولتهم وبرائتهم بهدف زيادة عدد المشاهدات وتسجيل الإعجابات وجذب المعلنين، حيث يقومون بتصوير فيديوهات لهم أو حتى القيام ببث مباشر ليومياتهم تحت مسميات سخيفة مثل(عفوية وبراءة الأطفال) أو تصوير (مواقف طريفة) معد لها سلفاً، فيبدو واضحاً فيها تلقين الأطفال للدور الذي يقدمونه وخلوها من أي عفوية لأنها (قائمة على التصنع) الذي قام الأهل بتعليمه لأطفالهم، فأصبحوا يدركون ما يقدمونه وأنه وسيلة (للشهرة والمال) ولم يعودوا بريئين بكل أسف لأن البريء والعفوي لا يدرك ذلك ولا يتاجر به ولا (يستثمره)..


وقد قامت بعض الدول العربية مؤخراً بتشديد الرقابة والعقوبة على الأهل الذين يقومون بعرض أطفالهم عبر صفحات مواقع التواصل الإجتماعي لأهداف مشابهة، والتي نتمنى تضييق الخناق عليها حتى محوها لأنها كارثة إنسانية وأخلاقية حين يقدم الوالدان على تدمير طفولة أبنائهم وسلبهم برائتهم ليعرض أغلى لحظاتهم على العلن وبثمنٍ بخس، والذي سيتسبب في اختلالٍ نفسي لهم سيظهر جلياً في مراحل لاحقة من حياتهم التي أصبحت متاحة للجميع حتى قبل ولادتهم والتي فقدوا فيها ميزة التصرف كأشخاص ٍ طبيعين لأجل وهم، وزرع مفاهيم مضللة في أدمغتهم حيث سيصبحون من (المشاهير) لمجرد القيام ببعض التصرفات المعد لها سلفاً أمام الكاميرا لتسقط من بالهم أي قيمة لعلم أو معنى أو فكر أو اجتهاد طالما أصبح تحقيق (أحلامهم) ممكناً دون كل ذلك و(تحت مظلة عائلية)، وسيغرس في عقولهم أن كل من ينتقد ذلك (يغار من نجاحهم)..


فهل تكون المطالبة بملاحقة أهالي هؤلاء الأطفال وحظر ظهورهم عقوبةً كافية أم أن سحبهم منهم لتتولى مؤسسات تربوية رعايتهم تحت إشراف مختصين هو الحل الأفضل لعدم أهليتهم من كافة النواحي؟ ولنتذكر جميعاً أن الكثير من الأهل (بعيداً عن هذا الموضوع) ليسوا مؤتمنين أو مؤهلين لرعاية الأطفال بل وأن مصلحتهم أحياناً تكون في إبعادهم عنهم كي لا يدمروهم، وأن الكثير منهم هو من يدفعهم إلى الجريمة والرذيلة ليستفيدوا منهم مادياً دون أي شعور بتأنيب الضمير معتقدين أن ذلك من حقهم (لأنهم أنجبوهم)، فمتى ننظر للطفولة والأطفال وقضاياهم بشكلٍ جدي دون استخفاف ودون أن ننسى أنهم الجيل الذي سيحل محلنا ؟ وكيف يمكن لأطفال يزرع فيهم أهلهم هذه القيم أن يغيروا واقع مجتمعاتنا نحو الأفضل وهم من تفتحت عيونهم على تسليع طفولتهم ؟ مع أننا لم نتوقع ذات يوم أن تصبح الطفولة أيضاً سلعة..




الكاتب الأردني الفلسطيني / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان "الطفولة ليست سلعة" 


Share To: