الكاتب المصري / إبراهيم الديب يكتب "قراءة فى كتاب مصر من تانى "




أخر ما انتهيت من قراءته كتاب محمود السعدني(مصر من تانى )ما زلت أتذكر يوم أن قمت بشرائه كنت أتجول مع مجموعة من الأصدقاء في رأس البر  فى صيف عام(١٩٩٠) فى نهايات القرن الماضي ، طبعت منه أخبار اليوم مليون نسخة ،ثمن النسخة جنيه واحد ، ولكنى اشتريته بنصف جنيه فقط لا غير بعد تخفيض سعره خمسين بالمائة وعلى كل مطبوعات أخبار اليوم، بعد أن قمت بالاستئذان من أصدقائي لمدة خمس دقائق فقط ولكنهم ضحكوا كالعادة مثل كل مرة سابقة عند الاستئذان  بدخول أي معرض للكتب لأنهم أصبحوا على يقين أنهم فقدوني للغد و ليس لمدة خمس دقائق لأني أظل أستعرض الكتب خمس ساعات على الأقل قبل أن استقر على شراء أول عنوان، وهي فترة قابلة للزيادة وأحيانا أكون آخر من يخرج من المعرض، ودعني أصدقائي على باب المعرض باللقاء غدا.

مصر من تانى :كتاب يؤرخ لمصر من بداية الفتح الإسلامي لمصر يكتبه السعدني الأديب من وجهة المصري  ستقرأ بداخله أخبار وحكايات مثيرة أبطالها أفراد الشعب البسطاء في علاقة ملتبسة مع السلطة لا تنقصها البطش والقهر من جانب السلطة والخوف والخنوع من جانب الشعب فيه في علاقة تجذرت على مدى عقود طويلة... بداخل الكتاب قصة الشعب المصري بعد أن وضعها السعدني في حروف وكلمات فيها المعاش واليومي والبسيط ولكنه يحمل النسق الفكري بكل تعقيداته وكأنك تتجول في تاريخ المحروسة... حياة تعج بالمشاعر وتعتبر بصدق عن شعب مصر،  مصر من تاني كتاب لا ترضى عنه السلطة لأنه لا يؤرخ  أن الملوك والسلاطين هم هدية السماء وسبب النماء والخير ومن أجل وجودهم ترزق العباد وبحكمتهم تساس البلاد وبقوتهم تحفظ الدولة من الأعداء فهو المهاب محطم الجيوش وقاهر الأمم... فلم يتبن وجهة نظر القصور والحكام أصحاب نظرية التاريخ يكتبه الأقوياء.
 تبنى كتاب مصر من تاني وجهة نظر الصياع والحرفيين أصحاب البلد الحقيقيين  من المهمشين والشطار والحرافيش...  يتناقشون ويتجادلون على المصاطب،والمقاهى أمثالي ، كتابة بداخلها أحلام بسيطة مؤجلة تنتظر التحقيق يعد بها الحاكم تلو الآخر الشعب كتابة تجولت الحقول والأزقة والحواري لا تغازل ساكن القصر المنتصر تصفه بالبطولة الخارقة دبجها ونمقها كاتب  ليرتزق منها .
أما كتاب السعدني فقد جاء منسابا رشيقا عميقا فى سلسلة من  تيار الوعي  بعد أن توغل بداخل العقل الجمعي الشعبي على مر العصور التي تناولها في رشاقة وسلاسة وأسلوب متدفق أدبي جمع بين عمق الفكرية وسهولة الطرح بعبدا عن تحذلق المؤرخين ومصطلحاتهم المجعلصة جاء الكتاب كقصيدة متفجرة بعذبات الشعب .
 فإذا كان التاريخ الرسمي سلسلة السلاطين والملوك والولاة سلسلة لا تخلو من المؤامرات والحروب والنصر والهزيمة والكر والفر لآخر الدهر؛ ترفع من تشاء بأمر ربي وتذل من تشاء، لا صلة بالشعب المطحون الذي لم يكف يومآ من الكدح المتواصل من أجل لقمة عيشه ...الشعب فى واد والسلطة فى واد آخر لا يجمع بينهما إلا عند جمع الخراج والضرائب المستحقة على الشعب من وجهة نظر  السلطة ،أو عندما يخطئ الشعب فتأدبه الشرطة وغالبا ما  يكون؛ خطأ الشعب  هو طلب رفع بعض الظلم عنه وتخفيف الجباية عن كاهله .

إنه كتاب فريد فى بابه ووثيقة أدبية فى تفسير التاريخ ،بين دفتي الكتاب تجربة ومعاناة شعب يكدح  ويزرع ويصنع ولا يجد قوت يومه إلا ما يبقيه للغد على قيد ومن يجد ذلك هو سعيد الحظ ،وعلى الجانب الآخر :سلطة تحكم وتجمع ثروة ليس الشعب داخل حساباتها  لم تجتمع يوماً لمناقشة مشاكله لتجعل حياته أكثر عدلا ورخاء ورغد من العيش... أما عندما الشعب في دائرة اهتمام السلطة و ليس خارج حساباتها فقط بل يكون ذلك من أجل فرض مكوس وضرائب جديدة   ولتأديبه إذا هبت فئة تتذمر من حالة الاستعباد  وسوء الأوضاع والفقر المدقع التي وزعته السلطة على الشعب بالعدل ومن حالة الاستعباد التي يرزح هذا الشعب أشبه بإرث يورثه ورثه من يحكم يسلمه لمن يأتي دون أن يكون لهذا الشعب رأي السلطان السابق أو اللاحق فهو ليس مدعو للمناقشة في مصيره اليوم ولم يكن ذلك أيضًا في الأمس وليس هناك أمل أن يحدث ذلك في الغد القريب...
 مصر من تاني كتبه السعدني بأسلوبه الساخر المدهش الذى يثيرك عقليا ويدهشك نفسيا.. يلخص فى جمل قصيرة مضغوطة ساخرة لاذعة عميقة؛ حقائق لا تجدها فى كثير من كتب التاريخ الرسمي ،من النتائج المدهشة التي توصل إليها منها؛ أن جماعات المعارضة على امتداد التاريخ الإسلامي لا  تقوى ويشتد عودها ، وتتمدد فى المجتمع ويرتفع صوتها؛ إلا بضعف السلطة المركزية  فتتمدد المعارضة فى الأرض التي تتخلى عنها السلطة.







Share To: