الأديب الفلسطيني / فايز حميدي يكتب نصًا تحت عنوان "من الشَّتاتِ إلى التِّيهِ العَظِيمِ "
تهويماتٌ في السّاعةِ الهامدةِ من الليلِ ..
**
أفتحُ نَافذةَ غُرفتي وأستقبلُ الشّمسَ ، أسترخي ، أغوصُ في عوالِمي الدَاخلية ، أتذكرهُ بحنينٍ مضيءٍ ، وتهبطُ بيَّ الذَّاكرةُ إلى الزمنُ الذي لا تَأمنُ على نَفسِكَ إلا إذا كُنتَ قَاتلاً أو قَتيلاً ...
أكوَامُ لَحمٍ وَصُراخ وَصَهيل ومشروعُ قيامةٍ ..
إنهُ المُخيم يَأبى الموتَ ..
كانَ المخيمُ المَاضي الجَميل الذي ننتمي إليه ، يتصاحبُ فيه الأسوأ والأفضلُ وَيمشيَان جنباً إلى جنبِ ، والثَّابتُ فيه الاعتزازِ بالنفسِ والشّجاعةِ وحُلم العودةِ والتَحريرِ ..
كان اليَرموك خُبز سَاكنيهِ ، ونبضَ الحَياةِ في العُروقِ ، ريحٌ رشيقةٌ محملةٌ بالطيبِ لا تبورْ في أزقتهِ الذكرَيات ، ولا تخونْ ، وتتمثلُ فيهِ روحُ الغاباتِ.
ذَات ظُلمةٍ كَانت تلكَ القَذيفةُ الرَّمضانيةُ على شَارعِ الجَاعونة مُجرَّدُ بدايةً للخُروجِ من حقبةِ الشَّتاتِ والدُّخول في حقبةِ التِّيه العَظيمِ .
شعبٌ فَائضٌ عن الحَاجة ، أرَادوا تَهجيرهُ أو ذَبحهُ من الوَريدِ الى الوَريدِ !!
لقد أصبحَ الشَّكُ هو القَانون ، والثِّقةُ نَادرةً ، وجَميعُ سَاكنيهِ مُدانون ولا من أدلةٍ تثبتُ البَراءة !!
فجأةً ، ما كانَ راقداً في أعماقِ المُستنقعِ يخرجُ إلى السطحِ :
الدويُّ ، الدَّمارُ ، الفزعُ ، تحت وابلِ القنابلِ والرَّصاصِ ...
مخيمٌ تحوَّل فجأةً إلى غابةٍ استَشرَتْ وحُوشُها وانفلتت غَرائِزُها بينَ فَوضَى التنَافرِ والحُطام والأجسَام الرَاعِفة ...
كانَ المُخيمُ يَتصببُ أعداءً ، لقَد كَانت فلسْطِينُ هيَّ المُخيمُ ..
خلالَ شهرٍ وأكثر قليلاً من حِمَمِ الموتِ المُدمرة ، تعرتْ شجرةُ السنديانِ ، لفَحها بردٌ قاتلٌ ، تَورمتْ رئتاهُ ، داهمهُ سُعالٌ مُتواصلٌ .. وكأنهُ يلفظُ ما تَبقى من حُلمٍ وَحياةٍ في زمنٍ يُولدُ فيهِ الطفلُ هَرِماً ..
ثُمةَ حَقائِقٍ لا يُمكن رؤيَتُها إلا في الظَلامِ .
بَدا الجميعُ وكأنهم يُشيعونَ حُلمهم الدَافءَ إلى مَثوَاهِ الأخيرِ ...
لقد كَانت هزيمة مدوّية ، إنها الخِيانة الأقربُ إلى التَبريرِ ...
على نحوٍ غريبٍ صَار الصمتُ سيِّدَ المَكان ، هدوءٌ مُذهلٌ ، وسكونٌ مُعجزٌ ، وَجوهٌ غَائمةٌ وَهجرةٌ إلى المَهانةِ.
يَا لهُ من زَمنٍ ، إنهُ زمنُ العَارِ ...
لم يَكُن وَجعُ الرُّوحِ هَادئاً أبداً في عُقولِ وقُلوبِِ سَاكنيهِ بل كانَ هَادراً بعنفٍ وَصخبٍ شَديدينِ ...
إنَّهُ الزَّمنُ الأكثر شراً وخذلاناً من الطاعونِ نَفسه ...
رغبتُ أن أوقفَ جَبروتهِ ، وأدحَرُ سكينهُ التي يَحفرُ فيها قَبري وقَدري ونهايَتي .. واكتشفتُ أنَّ قَدرَ المُخيم كَقدرِ النَّوارسِ أن يَموتَ على شَاطئِ الحُلم واقفاً مثلَ أقدَارِ الأشجَار , وأنَّ النِهاياتِ مَا هي إلا احتمالاتٍ لِبداياتٍ جديدةٍ !!
تَصافَحا في ودٍ عَميقٍ ..
على كتفِ مُخيم اليرمُوك المُحطمِ ، بالقرب من مسجد البشير ...
جلسَ عَجوزانِ مُتشابهانِ للغايةِ في السِّن ، وانحناءةِ الظهرِ والتَعتيرِ .... وجهين متعبين حتى الثمالة ، بَدا عَلى مَلامحهُما أنَّهُما لم يَعرِفا الإبتسامَ مُنذُ زمنٍ ، شَيخوخةً لَبِسَها الذُّلَ لبساً ثقيلاً لا تَهواهُ .
-قالَ أحدُهم مخاطباً الأخرَ :
هل ما زالَ هُناك أملاً يا أبو عُمر ؟
صمتَ أبو عُمر ...
مدَّ يدهُ إلى جيبهِ ، وأخرجَ عُلبة الدخانَ ، وثبتَ السِيجارة في فمهِ ، وبعينينِ دامِعتينِ بُكائهُما بُكاء تأملٍ ، بُكاءٌ يَخرجُ من قَلبِ الرُّوح ، ظلَّ مُثبتاً عَينيهِ فوقَ وَجهِ اليَرموكِ المُحطّمِ ، لا يَرفعهُما وَكأنهُ يَراهُ للمَرةَ الأَولى ...
قربَ عودَ الثَّقاب بحيثُ لامستْ شُعلتهِ طرفَ السِيجارةِ ، وجذبَ نَفَساً وَاحِداً عَميقاً اشتعلتْ بعدهُ السِّيجارة ، وبالدُّخانِ الخارجِ بعد ابتلاعهِ من فمهِ أطفأ العودَ ، ثم لم يَلبث أن ألقاهُ أمامهُ بحركةٍ عصبيةٍ وهو يتلمسُ لِحيَتهِ البيضَاء ، وَردَّ قائلاً :
ما كرهتُ شيئاً يا صَاحبي ، كَما كَرِهتُ التَفاؤلَ الأبلهَ الذي لا يَستندُ إلى الواقعِ ، لقد كانَ المخيمُ الأملَ الذي يُعطينا زخماً دائما ..
عندما رأيتُ كلَّ ذلك الدَّمارَ ، أدركتُ أنهُ قد مَضى زَمنٌ وجاءَ زَمنٌ آخرَ ، عندَها فقط هَوت أبراجُ الأملِ الشَّامخةُ في دَاخلي ، وفرشَ الحُزنُ والأملُ العَقيمُ أغطيَتهِ الثَّقيلة على رُوحي وَقلبي مُولدا نُدوباً لا تُمحى ...
يَا إلهي ما الذي حَصلَ ؟
سبعُ سنواتٍ عجافٍ ، كان الشوقُ قاسياً ، والحصرُّ والقَهر والحرَّمان ، والذُّل في تأمينِ الاحتياجاتِ اليوّميةِ ، وجشعُ أصحابَ العقاراتِ .....عِندما رأيتُ كلَّ ذلك الدَّمارَ ، لا أعلمُ ما الذي حصلَ لي !!
كنتُ أشبَهُ بذلكَ العُصفورُ الذي يَقفُ على غُصنٍ ، وقد تسمَّر في مكانهِ بفعلِ نَظرةِ الأفعَى المَوجُودة في أسفلِ الشَجرةِ ، كانَ يَكفي أن يَطير ، أن يَهرب ، أن يَهاجر ، أن يَرمي نفسه في البحرِ ، لكن أعضاءهُ خذلتهُ ، ما عادت تُلبيهِ ، فَهوى مُباشرةً في فكِ الأفعى المُفترسة .......
فلسطينُ تشبَهني يَا صَاحبي كما اليَرمُوك ..
- قالَ الرَّجلُ : البَركةُ بالأولادِ بجيلِ الشَّباب ، الحياةُ تُفاجئنا أحياناً ، بالتأكيدِ هُناك شُقٌ من أمَلٍ ...
-ابتسمَ أبو عُمر بحزنِ قريةٍ استبَاحها الطُغاة وَعبروا :
أبنائيَّ فرقهم الزَّمنُ ...فأخَذتهم الحَياة ُ كلٌّ من صوبٍ ، بعضهم هَاجرَ إلى أوربة ، والأخرَ الى غَزة هاشم ، ومنهم من أصبحَ تحتَ التُّرابَ أو طعاماً للأسماكِ ....
سكتَ بُرهةً ، بعدَ أن خُضلت عيناهُ من الحسرةِ التي دبَّت في وجدانهِ .
أبنائيَّ مثّلُ أبناءَ كل المُضطهدين في هذا العَصر المَاسونيُّ الفاجرِ ، زمن يهودا الاسخريوطي ، طحنتهم الحياة ، وخبزتهم الملمات ، وجَرحهم الزَّمن ، أخفقَ أحَدهُم هُنا ، ونجحَ الآخرُ هُناك .....كُلما غادرَ أحَدهم ، كنتُ أزدادُ عُرياً وبرداً ، وَسقوط ورقةٌ أُخرى من شجرةِ العُمّرِ ..
عُمر ، إبنيَّ الأكبرُ ، عادَ الى المُخيم من لبنان جريحاً بعد الاجتياحِ الصَ هيو ني عامَ أثنانِ وثمَانون وتسعُمائةِ وألفٍ ، وتشبثَ بهِ ،
Post A Comment: