قراءة نقدية في " توهجات جسد " نصوص شعرية للكاتب الجزائري وليد خالدي | بقلم. ميادة أنور الصعيدي/ فلسطين
تسعى هذه القراءة النقدية إلى رصد أبعاد الوعي النّقدي المنتِج للكتابة الأدبيّة عند الناقد والكاتب الجزائري وليد خالدي، من خلال نصوصه النثريّة في كتابه الموسوم بــ " توهّجات جسدٍ " نصوص شعرية، الصادر عن دار خيال للنشر والترجمة ببرج بوعريريج / الجزائر، 2020م، وهو وعي يجمع بين الفضاء الثقافي له ومنجزه النثريّ؛ إذ تحرّك من إحساسه بأنّ الأدب عاملٌ مهمٌ وكاشفٌ للواقع بأبعاده كلّها، فراح لأجل ذلك يمارس الإبداع مطعّمًا بالنَّقد على أعمق صوره وأبهاها، وكتابه هذا يرسم بدرجةٍ عاليةِ العلاقة الشديدة الخصوصيّة بين نقده وإبداعه؛ فالكتابة لديه لم تتولّد من فراغ، بل ثمّة عوامل ذاتيّة وموضوعيّة تفاعلت مع بعضها البعض؛ فدفعت أعماله النّقديّة لأن تثمر إبداعًا يحين حصادُه.
وحين يقرأ الباحث لأديبٍ ناقد يصير مسكونًا بالأسئلة التي تبحث عن إجابات لما خلف لغته، تلك اللغة المموّهة التي تنهل من فكره النقديّ وتصطاد اللحظات الإبداعيّة، ولعلّ تلك الأسئلة لا تبحث عن إجاباتٍ جاهزةٍ أو حاضرةٍ في الواقع الأدبي النقديّ، بقدر ما ترمي إليه من طرح واعٍ وسعي دؤوب في البحث نحو درجة كتابيّة لم يألفها الإبداع المعاصر. فهل تجلّى الوعي النّقدي لدى الكاتب وليد خالدي في نصوص كتابه الشعري _ توهجات جسد_؟ وهل أنتج خالدي كتابة مضادّة فكريًّا للسائد، بحيث تنطلق من الذات لتأخذ أبعد مدى للعالم المحيط؟ فإن كانت الإجابة بالإيجاب، فما هي أبعاد وتجلّيات وعيه النّقدي في نصوصه؟ وما مدى نجاحه في وضع الممارسة النقديّة جنبًا إلى جنب مع الممارسة الإبداعيّة؟.
أبعاد وتجلّيات وعي الكاتب وليد خالدي النّقدي في نصوصه:
لا يستطيع الكاتب/ الناقد تجاوز علاقته بالنصّ، بخلاف الناقد الصريح الذي يقيم الصلة مع النص أثناء قراءته له، وقد ينبني على ذلك صعوبةٌ؛ ذلك لأنّ الأوّل يوظف حدسه أمام سير النص مع توظيف أدواته النقدية والإبداعية معًا، وبذلك لا يغادر انطباعه عن نصّه، أمّا الثاني فيركّز على أدواتٍ نقديّةٍ خاصّةٍ تنقل هذا الانطباع إلى صورة التحليل الموضوعي الذي سيقوم به ناقد آخر. وفي هذا الإطار يقول عبد الجبار المطلبي " فالانطباع موقف ذاتي من النص وهو موقف لا يمكن الزعم من إمكانيّة التخلّص منه أو تحييده، فهو الباعث الأول على فعل النقد أصلًا " عند الكاتب/ الناقد. ويمكن القول إنّ الأدب نشاط شعوري في أصله، والنقد نشاط عقلي في أصله بتعبير حسين مروة.
فعمليّة الإبداع وفق هذه الرؤية عمليّة معقّدة تقتضي وجوبًا معرفة مسبقة بمستلزماته وأصوله وآليّاته وغاياته، وهي قضايا من صميم عملية النّقد _وإن لم يعلن عن مجريات فعله النقديّ في أثناء عمليّة الإبداع_ فالنّصّ بإتقانه وجماليّاته وتعقّده الفنّيّ إنّما يعلن بطريقة غير مباشرة عن الجهد النقديّ المحتقب فيه والمتساوق إبداعيًّا، من خلال عمليّات الاختبار والحذف والتشذيب والتحويل والتوظيف التي مارسها على مادته الخام، وهذا من صميم عملية النقد، ومن هنا، كان النّاقد الأوّل هو الكاتب نفسه. يقول في هذا السياق "مذ هتفت حروف فؤادٍ/ ...فغدت غيثاً ينسكب في ضلوعي/ فاخترقت عوالمي بلا استئذان !!تفترش خارطة قلبي، ومن ثم، ردهات عقلي/ أحسست ساعتها أنّ العالم مطويٌّ في جنباتي. نأت فيه الروح عن انجذابات طين الأرض/ تعشق كل جميل في متاهات إنسانيّته" ويبدو أنّ الناقد/ الكاتب " في حال سيطرة هذه الروح عليه عاشقًا للفكرة عشقه لكائن حي جميل، ومشبّعًا بها إلى حدّ الهوى وهو لا يتأمّلها بعقله أو بأحاسيسه أو بأية قدرة منفردة من قدرات روحه، بل يتأملها بكل وجوده المعنوي في وحدته وكماله " على حد تعبير بيلينسكي فاتسيريون. هذا التّأمّل يحيله إلى وعيٍ جماليّ للفكرة، بحيث يمكن رصد أبعاده عن طريق إدراك القارئ رؤية وليد خالدي المعبّرة عن فعل مأزوم مرتبط بوعي اجتماعي ينوب عن الفئة المثقّفة في المجتمع؛ ذلك الوعي الذي تجاوز مجموعة الإحباطات والحواجز في الواقع؛ لذا فهو نسبي ومشروط باللّحظة التاريخيّة التي يجتازها كما ذهب إلى ذلك الكاتب سعيد علوش.
ومن هنا، يعترف و. ه. أودن بأنّ الآراء النقديّة التي يعتنقها الكاتب هي في أغلبها تعبيرات عن جدله مع نفسه حول ماذا ينبغي له أن يفعل في المرحلة التالية وماذا يتجنّب، وما الكاتب إلّا ناقد يهتم بكاتب واحد، ولا تعنيه إلّا الأعمال التي لم تكتب بعد. ومن هنا فإنّ الفعل النّقديّ عند الكاتب وليد خالدي يتقدّم لديه الفعل النقدي على الفعل الإبداعيّ، ويبرز هذا بجلاء، في الحقل المعجمي انطلاقا من الأساليب التعبيرية الآتية " يتقمص لغة مهذبة/ بلادة ترتد سلوكا حضاريا/ في منفى جسد يتلفظ قلبه بلغة الخشب/ توهجات جسد مغلف بغريزة الإشباع واللذة والبقاء/ صيرت المدنس تاجا فوق الرؤوس/ وأهالت التراب على المقدس بابتسامة ماكرة... !! /يمسخ البراءة في أتون تخوم عبارات المجاملة/ اليوم خرج بجلده يعاتبنا بنظرات تنتشي بشموخ زائف... وبهمسات تعزف على وتر السماجة...بحثا عن الفردوس المفقود..." ويمكن القول في الأخير: إنّ الوعي الكتابي لدى وليد خالدي قد فرض أسلوبًا كتابيًّا ناقدًا يتمظهر في المكوّنات البنائيّة لنصوصه، ويرتبط برؤيته للعالم المحيط؛ لذا فإنّ فهم نصوصه يعتمد على فهم طبيعة العلاقة بين السياقات المعرفيّة والثقافيّة كاللغة، والمتلقّي، ومستويات القراءة وأبعادها، ومدى تفاعلها في نصوص وكتابات وليد خالدي.
قراءة نقدية في " توهجات جسد " نصوص شعرية للكاتب الجزائري وليد خالدي | بقلم. ميادة أنور الصعيدي/ فلسطين
Post A Comment: