الكاتب التونسي / عبدالكريم جماعي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان " حبة زيتون خضراء"  




(كنا نلهو كعادتنا..ذات صيف حارق..في ذلك الريف الهادىء..نستظل تحت اشجار الزيتون عندما تشتد الحرارة و يلتهب القيظ..او نمرح في شعاب الجبال اذا مال الظل واستطال..كنا نستشعر  سعادة طفولية ترفرف حولنا..فتجعل من ألعابنا البسيطة منتهى الغاية والمنى..نهرب احيانا كثيرة من جحيم القيلولة الاجبارية في تحدّ غريب لوصايا الكبار..غير عابئين بحفلات العقاب الجسدي التي تنتظرنا بعد عودتنا مساء..!

كنت شقيا مشاغبا عنيدا..لم تفد معي حصص الضرب او قواميس التقريع و سيل الاهانات التي أتلقاها خاصة من والدتي كلما عصيت اوامرها..بل زادتني اصرارا على تكرار كل أفعال الشقاوة الطفولية..!!

كنت شديد الرغبة في تجربة كل شيء..حد التهور..ساعيا الى اشباع ذلك الفضول الصبياني في شجاعة  غريبة..واقدام مخيف..!!

لكن ما وقع في ذلك اليوم..جعلني أعيد حساباتي بكثير من الحيطة والحذر..!!!!

كنا اجتمعنا نحن الاطفال كعادتنا بعيدا عن اعين الكبار الذين خلدوا لقيلولة طويلة..في ذلك الجو اللاهب..احتمينا في ظل الاشجار..نلهو بالتراب أو نقفز كالقردة بين الأغصان..حتى اقترح فجأة أحدنا على البقية..لعبة طريفة غريبة..تتمثل في سد منخري أنوفنا بحبات الزيتون الخضراء..في كل ثقب حبة واحدة ثم يبقيها هناك لاطول فترة ممكنة..اشتد الرهان على من بامكانه النجاح في تلك التجربة العجيبة الساذجة..انهمك الكل في المحاولة تلو المحاولة..كانت اغلبها تنتهي بالفشل..بسبب كبر حجم حبات الزيتون فلا نستطيع وضعها في مدخل المنخر أو أنها صغيرة على فتحة الانف  فلا تثبت في مكانها بل تسقط أرضا بمجرد ابعاد يدك عنها..وبتكرار العملية استطعت أخيرا ان أجد حبتين مناسبتين لأنفي..وضعتهما برفق في مدخل خياشيمي..حرصت على ثباتهما..حركت رأسي مرار..لم يسقطا..صحت بأعلى صوتي..لقد فعلتها..لكن المفاجأة أنني لم أتمكن من اخراجهما..حاولت مرارا وتكرارا دون جدوى..انتبه الصبيان لورطتي..تجمعوا حولي لمساعدتي..حاولوا الامساك بالحبتين بأصابعهم..لكنهم فشلوا..أصبت بالاحباط..واعتراني الذعر..ضغطت على انفي من الخارج بلا فائدة..جذبت طرفي المنخر بالابهام والسبابة لكي أقوم بتوسيع ثقب الأنف..دون جدوى..بل أحسست وانّ الحبتين تغوصان الى الداخل أكثر وأكثر..شرعت في البكاء..صرت أرفع رأسي وأخفضه وانا أدور حول نفسي رافضا أي يد تمتد نحوي..لم أفلح في زحزحة حبات الزيتون من مكانها..جربت اخراجها بواسطة استنثار الهواء بأنفي..فلم أنجح..أسقط في يدي..هرع بعض الصبية بالخبر الى والدتي..جاءت على عجل..أمسكتني من أذني وقادتني الى المنزل..أشبعتني تقريعا وضربا كعادتها..اختلطت دموعي بالمخاط السائل فوق فمي..قامت من فورها وجلبت ملقطا حديديا صغيرا الذي تستعمله النسوة في نزع شعر الوجه..أدخلت طرفه في مناخيري بقوة..فخرجت الحبتان وسال الدم بغزارة..انفرجت أساريري غبطة و سرورا..ضحكت بفرح غامر..غير آبه بالضربات التي كنت أتلقاها على ظهري من أمي..أو الضحكات التي كانت تصل مسمعي من أترابي الذين يتابعون المشهد..خرجت اليهم وعلى وجهي ابتسامة عريضة برغم بقايا الدمع في الاحداق وعلى الخدين..وخيوط الدم الخارجة من أنفي التي  اختلطت بالمخاط الاصفر حتى وصلت فمي..فكان لها مذاقا مرا مرارة الزيتون الاخضر..!!)




الكاتب التونسي / عبدالكريم جماعي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان " حبة زيتون خضراء"



Share To: