الأديب الأردني / د. مهند ساري يكتب قصيدة تحت عنوان "اكتُبْ لِتَذْكُرَ، أو لتَنْسى" 




* * *  


هذا الضّبابُ ،

كَتَبْتُ عنهُ قصيدةً مِنْ قَبْلُ ،

لَمْ أَرجِعْ إليها مُنْذُ بِضْعِ سِنينَ ...

قُلتُ لِلَحظةِ الإِلهامِ : شُكْرًا . 

ثُمّ قُلتُ لناقدي في داخلي : أَزِلِ

الزُّوانَ مِنَ القَصيدةِ كَي أُحِبَّكُما معًا

أَوْ تَسْتَوْجِبا حَمْدي

(وغايةُ حَمْديَ الشُّكْرُ ) 

.

.

إِنّ الكتابةَ ضَبْطُ عاطفةٍ بعاصِفَةٍ

فَكُوْنا قاسِيَيْنِ علَيَّ، وانْسَلِخا تمامًا

مِثْلَما عن ليلِهِ في الأَرْضِ

(يُولَدُ ، دامِيًا ، فَجْرُ )

.

.

هذا الضّبابُ بُخارُ أَفْئدَةٍ مُعَلَّقةٍ

وحَيْرَةُ مَنْ تَخفّفَ ، قَبْلَ ساعاتٍ ، مِنَ

العَدَمِ الثّقيلِ، ولمْ يَزَلْ رَطْبًا يُحاذِرُ أَنْ

يُمَسَّ ... 

بدايةُ التّكْوينِ في أَزَلِ النّدى 

وصَرافَةُ المَعنى/

تَكَلّمَ كُلُّ شيءٍ يَومَها

( وَتَنَفّسَ الغَمْرُ )

.

.

لا شَأْنَ لي بِشُؤُونِهِ مِن بَعْدُ ،

يُمكِنُهُ المَجيءُ ، ولن أُحَدِّقَ في

غُموضِ بَياضِهِ بِبَصيرتي، يَوْمًا، ولا

بَصَري ...

سَتَكفيني مَشاغِلُ–غَيرُهِ– أُخرَى

وتكفيني حياةٌ ها هنا

يَرتابُ رَيْبي ، مُنْصِفًا ، في يومِها :

إنْ لَم يُرِبْكَ صفاؤُها في الصُّبحِ

( رابَكَ ، مُسْيَها ، كَدْرُ )

.

.

هذا الضّبابُ كتَبْتُهُ يومًا

بِبُجْرِ بياضِهِ وبِعُجْرِهِ

ولَمَسْتُ حَيرَتَهُ الّتي عَلِقَتْ حَبابًا فوقَ

جِلْدِ الأرضِ ، نَيْئًا ، يُشْتَهَى

شيئًا فشيئًا وقتَها

( وتَكَشّفَ السِّرُّ )

.

.

لكنّني – هذا الصَّباحَ –

أَمامَ بَيتي حائرٌ مُتَردِّدٌ :

ماذا سَيَفعَلُ إنْ تَجاهلَهُ الجميعُ

ولم يَقُلْ أَحَدٌ لهُ – مُتَطَفِّلًا – :

مِن أَيِّ زَهْرِ الماءِ جِئتَ؟ وما بَدا

لِوُجودِكَ الشّبَحيِّ ؟!

هل قَصّتْ رياحُ اللّيلِ أَجنحَةَ النّدى في

جِسمِكَ النّامي، فَصِرتَ سحابةً أَرضيّةً ؟!

أَمْ يا تُرى سحَرَتكَ هذي الأَرضُ،ثُمّ

هَوَيتَ ثَوبًا فوقَ عَورَتِها ؟!

كذلكَ فِعلُها في النّاسِ مُذْ كانوا

( كذلكَ .. يَفْعَلُ السِّحْرُ )

.

.

هذا الضّبابُ ، سَأَلتُهُ مُتَوَجِّسًا :

أَوَتَستَحِقُّ حياتُكَ المُثْلَى انفلاتَكَ مِن 

حُدودِ الشّكْلِ؟!. هَلْ ما زِلْتَ ماءً

أَمْ نَسِيْتَ حياتَكَ الأُولى، كنِسياني

كلامي عنْكَ في تلكَ القصيدةِ ؟!

رُبّما تُنْسَى حياةٌ حينَ

تُذْكَرُ غَيرُها !

تُنْسَى

( ويَنْسَى ، مِثْلَها ، الشِّعْرُ ) 

.

.

لا أَعرِفُ الشّيءَ الكثيرَ عن العناصرِ

قَد يكُونُ الماءُ أَصعَبَها مِزاجًا /

رُبّما شَهَواتُهُ تَغْلي وتَبْرُدُ دُونَ

حاجَتِهِ إِلى التّجريدِ والحِسِّيِّ !

– كُلُّ الشّكلِ يُؤْلِمُ مَن يُجَرِّبُهُ –

 ولكنْ : هل يَمَلُّ كما أَمَلُّ؟! 

 لَعلّهُ !

( لكنّهُ ، في شَكلِهِ ، حُرُّ )

.

.

هذا الضّبابُ ، كتَبتُ عنهُ

قصيدةً يومًا

وأَكتُبُ ها هُنا أُخْرى سَأَنساها

وماذا هَمّني؟!  ماذا ؟! 

سَيُنْسَى كُلُّهُ ...

إنّ التّذكُّرَ كالضّبابِ

–ومِثلُهُ النّسيانُ– مُقْتَطَعٌ ومَقطوعٌ

ومُنذُ البَدءِ مَنكُوْثانِ في نَسْجَيهِما ... 

أَضْفاهُما في الرّيحِ عُريٌ سابغٌ

أَقواهُما قُطْنٌ بِمِنْدَفَةٍ

كما .. ( أَحلاهُما مُرُّ )

.

.

أُكتُبْ إذًا ، 

أُكتُبْ ، وأَنتَ تُطِيلُ مَشيَكَ فيهِ ، في 

هذا الصّباحِ ، تَعِلّةً

لِوُجودِهِ المَبثُوثِ مثْلَ هَباءَةٍ مَدمِيّةٍ. 

لا خَيرُهُ خَيرٌ فَيُرجَى

( لا ، ولا شَرُّ ) 

إلّا لِتَكتُبَهُ فيَحيا

ساعةً، أَو ساعتَينِ، صُبابَةً مِن

عَيشِهِ

( كِلْتاهُما ، في رُوعِهِ ، دَهْرُ )

.

.

اكتُبْ لِتَنْبُتَ فيهِ أَجنِحَةُ النّدى 

عن حَيرَةٍ بَيضاءَ قد عَلِقَتْ بقَلبِكَ

والتّلالِ ...

تَشُمُّ زَهْرَ هوائِها بِيَدَيكَ

دافِئتَينِ / بارِدتَينِ

(لا ثَلجٌ يُوَرِّمُها، ولا جَمْرُ )

بِيدَيكَ غامِضتَينِ/ واضِحتَينِ في جَنْبَيكَ، 

نادِيَتَينِ / ناشِفَتَينِ في جَيبَيكَ

حيثُ، هناكَ، تُغْمَدُ في الغيوبِ

( أَصابعٌ عَشْرُ )

.

.

سِرْ واضِحَ الخُطُواتِ في هذا العَماءِ الرّخْوِ

أَوْغَلَ ما تَعاهدَهُ العَماءُ من الهَيولى ها هنا

أَو مَدَّهُ زَبَدًا على الطّرُقاتِ ... 

لا تُخْرِجْ بهِ قلَمًا ولا ورَقًا، إلى أَنْ

ينتهي التّكوينُ من مَكنونِ عَفْرَتِهِ

ولكنْ سِرْ فَحَسْبُ

كأَنّ غايةَ عَيشِكَ الباقي من الدُّنيا

( هُوَ الإيغالُ .. والسّيْرُ )

.

.

لا شيءَ في النّسجِ الخفيفِ الرّطبِ يَعلَقُ

بي .. ويُزعِجُ مِعطفي. 

لا شوكَ فيهِ هُنا أُخاصِمُهُ : " لَأَوْجَعَني !"

ولكنْ قد وَجِعتُ مِنَ الوُجودِ ،

وَجِعتُ مِمّا يَترُكُ المَعنى

ضَبابًا مُثْخَنًا .. ومُرَوَّعًا بِعَبيرِهِ

( كُلُّ العَبيرِ ،مُضَوَّعًا ، غَدرُ ) !

.

.

خُذْ وَقتَكَ المَحمِيَّ بالزّهْرِ الخفيفِ الأبيضِ السّكْرانِ في

هذا الهواءِ ، ولا تَعُدْ للبيتِ إلّا حينَ تَعرِفُ

كيفَ تَفْرُطُ حَبَّهُ الدّامي

وتَنثُرُهُ حَبابًا في السُّطورِ ... 

لَرُبّما، بِقصيدةٍ، سَتُبَدِّدُ الصّلْصالَ في الكَلِماتِ

فهْيَ

(–على نُثارِ هَبائِها– حِبْرُ ) ! 

أَو رُبّما 

بقصيدةٍ ، سَتُؤَبِّدُ النّسيانَ

وهْوَ

–على تَفاوُتِ فَوْتِهِ–

(–وعلى تَفَلُّتِ فَتْلِهِ – ذِكْرُ ) ! 

.

.

هذا الضَّبابُ ، يَتُوقُ أَنْ

يَبقَى كلامًا عالِقًا في مَحوِهِ الصّافي ، 

لذا يَحتاجُ شاعِرَهُ لِيَكتُبَهُ انتِشاءً

بامتِثالِ الشّكلِ للفَوضى !

فَخُذْ بِيَدَيهِ للنّظْمِ السّماويِّ الخَفيفِ /

كأنّ نَظْمًا سوفَ يَنثُرُ ماءَهُ الذّهَبيَّ

لِلذّكرى .. ولِلنّسيانِ في هذا الصّباحِ !

فليسَ، بَعدُ، لِشاعرٍ

(مِن تَوْقِهِ .. عُذْرُ )

.

.

واكتُبهُ أَنْتَ ، كأَنّما

لِقَصيدَتَينِ أَتى الضّبابُ لكي يُعَلِّقَ 

حَقْلَهُ

طَيفًا بدائيًّا مِن الحَبِّ الخفيفِ/ المُستَنيمِ/ المُشتَهَى 

اكتُبهُ أَوْضَحَ ما يكُونُ بِخَيطِهِ

في نَسْجِهِ .. طَمْسا

اكتُبْ إذًا

اكتُبْ

( لِتَذْكُرَ .. أَو .. لِتَنْسَى )

.

.


الأديب الأردني / د. مهند ساري يكتب قصيدة تحت عنوان "اكتُبْ لِتَذْكُرَ، أو لتَنْسى"


الأديب الأردني / د. مهند ساري يكتب قصيدة تحت عنوان "اكتُبْ لِتَذْكُرَ، أو لتَنْسى"


Share To: