الأديب المصري / محمد عبدالرحمن شحاتة يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "باب دُكالة"




أعبرُ البوابة العتيقة، يوقفني أفراد الأمن لتفتيش حقيبتي، أقدّمها إليهم بوجه بشوش لأخبرهم أن بها زجاجة ماءٍ ورواية لـ "فاسيلي"، ينظر إليها أحد أفراد الأمن بوجه جامد ثم يعيدها إليَّ دون أن تتغير ملامحه، أعلّقها على كتفي وأتابع السير مرة أخرى.

هُنا باب دُكالة، ليس باب مدينة دُكالة القديمة بمراكش، لكنها تلك النقطة الواقعة في أقصى الشمال المتاخم للحدود العراقية، حيث تختلط زقزقة العصافير بصخب الزوّار، بإمكانك أن تلمس ذلك بمجرد أن تطأ أقدامك المكان، يتخبّط كتفي بأكتاف العابرين، كلٌّ منا لا يُبالي بالآخر، فقط يترك كل زائر أحزانه هنا ويرحلُ خفيفًا.

تقع عيني على أوزّةٍ بيضاء تسبح في بحيرة قريبة من البوابة التي عبرتُ من خلالها للتو، الماء سرُّ الحياة، طاهرٌ بذلك القدر الذي يُطهّرُ الجسد والروح معًا، لذلك لم أتعجب كيف لأوزّة أن يغمرها ذلك القدر من السلام النفسي وهي تسبح في هدوء، مانحةً الفرصة للماء كي ينفض عنها أثقالها.

أعبرُ الجسر الخشبي إلى الناحية الأخرى من البحيرة، أجلس أسفل المظلات البيضاء، فوق أرائك حديدية مكسوّة بفِراش السَّدو التي تتميّز بها زنقة سيدي يوسف، تمتد أمامي بلاطات بنّيةٌ اللون حتى مبنى "أركانة" ذي الأعمدة المزخرفة بالنقوش الإيرانية، اعتدتُ المجيء إلى هنا لأنفض عن كاهلي ثِقلًا كبيرًا، هُنا سكينة تهبط من السماء، الهواء البارد المشبّع برائحة الصحراء ينعش الرئتين، هذه المنطقة من باب دُكالة هادئة إلى درجة تنتشلك من صخب الدنيا وتلقي بك في غابات الصمت، أفتح حقيبتي لأخرج الرواية، أقرأ عنوانها لأعرف ما سحبته يدي هذه المرة من أعمال "فاسيلي"، إنها رواية "الحياة والمصير"، لطالما تتطابق معي الصدفة والقدر، لقد جئت إلى هنا هربًا من مصير غامض وبحثًا عن نجاة، وبحثًا عن حياة أخرى تليق بخلجات نفسي، وأيقنت أن كل صدفة لم تكن إلا قدرًا.

الوحدة تبرئ النفس من أسقامها، أطلت جلوسي كعادتي حتى أنهيت جزءًا لا بأس به من الرواية، لكن شيئًا ما غريبًا يحدث هذه المرة، تلك الملامح التي أدركت أنها لم تكن عابرة تنبت فوق صفحات الرواية، لقد تراءت لي فوق أشياء كثيرة من قبل، البحر، السماء، حتى فوق صفحة الصحراء القاسية التي بدت حينها وكأنها وجه نهر يعكس ما يقترب منه، لكن هل يمكن أن تنبت تلك الملامح فوق صفحات رواية جئت لأقرأها في نقطة بعيدة من الصحراء، فجاء عنوانها مطابقًا لرحلة هربي من مصير معتم وبحثي عن حياة أخرى؟

أغلقت الرواية مبتسمًا وأعدتها إلى الحقيبة، ثم علّقت الحقيبة فوق ذراعي وقمت من جلستي، وقفت أتأمل النوافير التي يتدفق منها الماء بأشكال مختلفة، انعكاس زرقة الأرض من تحت الماء يجعل له رونقًا خاصًّا، إلا أن ملامحها التي تجلّت في زرقة الماء منحته رونقًا ملائكيًّا آخر.

آخر ما يمكن تصديقه أن يطاردني طيفها بهذا القدر من الجنون، يحاصرني من كل صوب، حاولت أن أشغل نفسي بما يُباعد بيني وبين الصراع المحتدم داخل رأسي، أنا لا أفضّل في باب دُكالة سوى بعض المقاهي والزنقات والأبواب، رغم ذلك غادرت زنقة سيدي يوسف وذهبت إلى زنقة الزرقطوني، جلست على مقهى صغير بها، ولكني سرعان ما غادرتها، سرت باتجاه باب مولاي يوسف، ومنه إلى باب المدينة القديمة، تابعت سيري عبر ممر ضيق يتكدّس بالمارة، انتقلت إلى منطقة تشبه المحمية بها عدد لا بأس به من الحيوانات، ابتعتُ بعض البرسيم من بائع يقف على مقربة منّي، ألقيت بعضه إلى اللاما، والبعض الآخر ألقيت به إلى وعلٍ جبليٍّ باكستانيّ الموطن.

غادرت محمية الحيوانات ساخرًا من نفسي، ضحكت بذلك القدر الذي دفعني للبكاء من قبل، جلست فوق رصيف ممر مسقوف باللبلاب بعد أن خلعت حذائي وألقيته بجواري، ثمّة شيء في الحياة يدفع إلى الجنون، ذلك ما أثاره عزف العود الذي يرنُّ في الناحية الأخرى من باب دُكالة، كانت الشمس قد أنهت مهمّتها وبدأت في الرحيل، تاركةً للسماء صفاءها الأزرق الذي يطل من خلف شطائر الغيم المتناثرة، أعدت الحذاء إلى قدميّ وقمت من جلستي، تسللت عبر ممرات محفوفة بالمقاعد والجالسين حتى وصلت إلى عازف العود، جلست على أريكة قريبة لأستمع إلى صوته العذب الذي يمتزج برنين العود، ناقلًا عيني بين أركان المكان بلونه السماوي، أشعر وكأن قطعة من السماء سقطت هاهنا للتو فأصبح المكان شبيهًا لها.

تُظلم السماء، تمنح مصابيح الإضاءة البيضاء والصفراء فرصة للإفصاح عن نفسها، أحمل حقيبتي فوق ظهري وأغادر بعد أن سكت صوت العود معلنًا عن انتهاء جلسة الغناء اليومية.

أخرج من البوابة العتيقة، أفتّش عن سيارتي التي نسيت أني أوقفتها بعيدًا، أسير فوق الإسفلت الذي تكسوه الرمال، أصل إلى السيارة فأخلع عن ظهري الحقيبة وأضعها في المقعد المجاور لي، لقد تركت داخل أسوار باب دُكالة أثقالي وحزني، خوفي وجزعي، كل شيء، إلا ملامحها التي صاحبتني في طريق عودتي.

***


الأديب المصري / محمد عبدالرحمن شحاتة يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "باب دُكالة" 



Share To: