الكاتبة السودانية / سمر حيدر محمدنور تكتب "لـمّـن كـنـت صـغـيـرة" 




"لمّن كنت صغيرة بلعب بالتراب تررا تررا


ماما لبستني الجزمة والشراب تررا تررا


مشيت للأفندي أداني كتاب.. قال ليّ أكتبي عربي.. كتبت حساب.

الموسيقى تضرب.. والنحاس يدق دق دق دق".


بهذه الكلمات البلدية، نشأنا وكبُرنا وما تزال ذات قيمة لدينا، وأننا نتَغنّى بها وسطَ زَهوِ الأيام؛ تُعيد لنَا شَريطَ الذّكريات، كَيف كنّا؟ وكيفَ صِرْنَا؟! وبينَ ثَنايا الدّهر تُصبحُ طفولتُنا هي الطّابع الأسمَى لكل مَراحل حياتنا. 


حَيثُ كانَت مُتَمثلةٌ في شربِ شَاي اللبن صباحاً بالعيش الحَار معَ ضَحكات حَبوبة وجدّو، والخروج معَ المَاشية إلى المرعى بصُحبة ذاك الطفل الشقي المُلّقب بـ (الأدروب) ذو البشرة السمراء كـ لون حبوب القهوة. ومَا أن ينتهي من نزهتهِ، يذْهبُ للّعبِ مع أندادهِ في وضَحِ النّهار بِلعبَة (الـبـلّي) _وهي بَضعٌ من الكور الصغيرَة الملوّنة_ أو

"شِليل وينُو؟ أكلهُ الدُودو.

شليل وين راح؟

 أكلهُ التمساح". 

كُنّا نصْنَع من مسْتقبَلنا حَاضرََا لأواننَا 

نَحْنْ من صنَعنا الهاتف الّلا سلكي من طوبِ البنَاء الأحمرِ، 

نَحْن منْ جَعلنَا منَ العُلب الفَارغَة أواني للطّهي و يَكأنّنا نَتعلّم أُسسُ الضيافة والتّرحاب،  

نَحنُ من تَرعْرعنا في التُربة الطينية، من أرتديْنا الزمان القَادم،

مَن صنَعنا أنفُسَنَا، من زيّنا لوحتنا، مَن كَبُر نَابضَنا قَبْل عُمرِنا. 


نَحنُ من كان جُلّ يومِنَا في الخَارج، مَن علّمنا الشّارع ُ إحترام الكبير وتقدير الصّغير، والعطف على العَفيف، 

نحن من تَعلّمنَا أن لا طَعْم لِـكسّرة الخُبز 

وجَارنَا لمْ ينزِل على جَوفِه قطّرة ماء، 

مَن تَعلّمنَا أن الفرحة بيوتْ و بيت المِسكين أولى، مَن عُلّمنا أن بَاب (الديوان) 

لا يَنسدُّ أبداََ وأن " حَبابكم أَلِف" هِي مَن تُلقَنُ على ألسِنَتُنا حِينَما كُنّا في المَهد، 

نَحن مَن إن عادَ المُغتَرب يَهدي كُل سُكان (الـحِلّة) أثْواباََ و "جَلاليب" و لا ننَسى مَحبوبةِ النّساء "الملايات" و "العِدّة"! 


نحنُّ مَن لُقبنا بـ "الشُفّع" وهي كلمةٌ تعني شافعٌ لأن الأطفال شُفَعاء آهاليهم، 

حتّى الرّحمة اختصت بنَا. 


وفي تلك الأثناء - ودرجَة الحرارة قد حَطّت بصمَاتهَا عليْنا- تأتيك عَربة (الآيس كريم البلدي) مجتَاحة قُلوب العذارى نَلهثُ وراءها كـ الظَمآنينَ من حَرّ الدنيا. 

وما إن تَتوقف، حتى نصطفّ بانتظار الحُصول على "سكوب" من الايس كريم وأعيننا تتلألأ مِن فرطِ السّعادة والفَرح، مـا أجمل طُفولتنا! لسنا بحاجة للتكلّف لنفْرح! تَكفينا قطعَةُ من (حلاوة سيما) أو (حلاوة فولية) ولنرفَع العيار قليلاً صينية من (البَاسطة) هذه ستجعلنا في أوجِ بهجتنَا.


أمّا العِيد؛ فـفرحته مرتبطةُ بوجُود الأطفال مكتَسيين ثِيابهم الجديدة، ظاهرين بأجْمَل الحُلل متزَيّنينَ بـ الشرائط الذهبية وبعْض الخِضاب.


وعند ظهور الشفق الأحمَر... هنا تبدأ الحكاية:

"سيدَ اللبن جا، حمارته بيضا، أداني رطلين أديته جنيهين".

من المَعروف لدينَا كـ أطفال، أن اللبن هو أجمل ما ننتفع بِه لكن؛ ما إن يأتي سيد اللبن أو _الحلاب_ في حال لديك بقرٍ أو ماعزٍ فـهنا ننصت كلّنا ونَمدُّ ناظرنا لِكل المراحل، من حلبه إلى تسخينه ويا جمال تلك الليلةِ التي يُمدّ فيها إليك كُوريّة تحتوي على(الرّقاق) أو (مديدة البلح)! أكاد أجزم لك أنك لن تصبر عليها وستلتهمُهَا في أول أوانِها.


ويدخل عليك جدكَ حَاملاً بيدهِ (مَلوة فول) أو بطيخة آخر حصاد يومهِ .

يقول لك: "يا ولد تعال جيب لي الإبريق النتوضاء"

الطفل: "جدو جدو هاكا الإبريق"

وَنستوي في صفٍّ يشعّ بهجةً وضياءً لصلاة العشاء وبعدها، تبدأ أوقات السّمر... "يا القمرا يا القمرا شتّتي نورك في الرملاء خلي حمَادة يحجينا والموسيقى تسلينا ناكل ايه ناكل عجوة نشرب ايه نشرب بيبسي نضحك كيف هاهاها نبكي كيف اييي اهيي". 


عادةً ما ترتَبط أوقات "الونسة" لدينا بمغيبِ الشمس، حينَ يعمّ الهدوء وتبدأ ألحان الريد، عازفةً بـ "أنا لي أيّام ما شوفتو ظهر مالو القمر" وبجَانبهَا حبوبة وجدّو، يحتسون "الجَبنَة" معَ البَخَور والبسَمَات الصّادقة.


تِلكَ الّلحظات الثمينَة، لا تُقدر بثمن ولو جئت بملء الأرضِ ذهباً.



الكاتبة السودانية / سمر حيدر محمدنور تكتب "لـمّـن كـنـت صـغـيـرة" 


Share To: