الكاتب التونسي / أ.المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الفطام الثاني" 




قاربت الشمس على المغيب و قارعت رؤوس البنايات الشاهقة و خفت صوت الباعة المتجولين، و بين الحين و الآخر يسمع صوت ابواب تسدل تاركة في أذنيه أزيزا حادا يزيد من توتره..اشتعلت أضواء الساحات العامة ، و تشابهت عليه الانهج الطويلة و الشوارع المقفرة ، و لم يعد يعلم مشرق الشمس من مغربها.. 

مال بخطوته الخجولة إلى حائط مظلم و جلس يمسح العرق المتصبب من جبينه ، في ليلة حارة ، ينشد بعض النسمات الضعيفة ..تناول من جيبه هاتفا خلويا من الرعيل الاول  و بعض القطع النقدية التي لا تسد رمقا و لا تحقق مبيت ليلته تلك .. ظل يراقب بعض المارة يهرولون على عجل محملين ببعض الأغراض مسرعين إلى ديارهم بلهفة و إقبال ..أخذه النعاس من شدة التعب ، فنام متوسدا حقيبته الصغيرة .

الساعة تجاوزت نصف الليل و ملامح الجو تغيرت ، شعر بارتعاشة تسري في جسده من وقع البرد ، حاول تغيير وضعه عكس النسمات ، لكنه لم يهنأ ، فقد أحاط به سمار الليل و قد انتهت  بهم الرحلة كالعادة إلى هذا المكان المنزوي ،  لمواصلة السهر ... ارتعد للوهلة الأولى لكنه سرعان ما تماسك متظاهرا برباطة الجأش ،معتذرا  على استحواذه العفوي على ركنهم.

كان أغلبهم في مقتبل العمر ، بانت عضلاتهم من تحت لباسهم الصيفي مفتولة .. و كانوا يصدرون صخبا في المكان بلا قيد ..حاول مغادرة المكان ، لكنهم منعوه من ذلك خوفا عليه من حملات التفتيش الليلية ، و هو الغريب عن الديار .

جلس على مضض يستمع إلى أحاديثهم ، يفهم بعض اللفظ و يجتهد في تفسير بعضه ، حتى انتهى مجلسهم و بدا الاعياء على أصواتهم ، فتسللوا عائدين إلى بيوتهم ..الا كهلا كان بينهم ، تركوه في نومته و غفلوا عن إيقاظه ..تبدد خوف الغريب و شعر ببعض الراحة و الأمان و من طيبته تناول من حقيبته ثوبا قديما غطى به الكهل و منشفة تدثر بها هو و نام..

بدأ الصبح ينبلج و دبيب الحياة ينعش فجر المدينة ، هز جسده المتعب و التفت إلى حيث يرقد الكهل ، فلم يجد غير الثوب ملقى في مكانه و هاتفا نقالا تركه الرجل قبل أن يغادر.

كان حلمه العثور على عمل في أقرب أجل  ، غير أن هاتف الرجل الغريب عطل حركته و جعله حبيس قطر دائري صغير ، ينتظر رجوع مؤنسه صاحب الجوال.. تلاعبت برأسه مخاوف و حاصرته الروايات التي سمعها عن أعمال التحري و التقصي و البحث و رصد موقع الشفرات و الهواتف ، للكشف عن أصحاب السوابق و المطلوبين للعدالة و الإيقاع بهم ...و في غمرة التيه انتفض كالملسوع حين فاجأه اهتزاز هاتف صاحبه المجهول ، و بعد تردد فتح خط التواصل مرتبكا ، و قبل ان يتكلم بادره المتصل :" ألو كيف قضيت ليلتك البارحة ، أرجو ألا تكون منزعجا منا "..تيقن من هوية مخاطبه و سأله :" لماذا تركت جوالك ، هل نسيته؟؟" ..ضحك الغريب طويلا و دون أن يجيبه طلب منه ألا يبرح مكانه حتى يأتي إليه .

  و بلا تأخير ، تربض سيارة فخمة غير بعيد عنه و منها ينزل الرجل بزي إفرنجي أنيق و ربطة عنق تتدلى على صدره حينا و حينا تتلاعب بها النسمات إلى كتفه ..

تصافحا و النفس إلى النفس تصفو ، و دون تفكير ركب بجانبه و اتجها إلى ناحية الشاطئ الفسيح حيث المطاعم و المقاهي البديعة و النسمات العليلة..

 انزاح جبل الغموض بينهما و علم من صاحبه انه موظف في إحدى البنوك الكبرى و أنه يعيش بمفرده في فيلا شاسعة بضاحية غير بعيدة ..و أنه ترك جواله متعمدا غير غافل ليشكره على دفء ثوبه الذي تدثر به ليلة البارحة..

ترقرقت بشائر الدموع من عيني النازح ، و عجب لأمر الغريب يثق فيه إلى هذا الحد .. فسأله :" أما فكرت انني أكسر الشفرة و أبيع جوالك و أمضي !!" ..رد صاحبه و قد انتهى من زفير طويل :" رائحة ثوبك معطرة بخليط من التراب و العرق و الخبز الذي كانت تعده أمي عند الافجار ..و بين هذه و تلك ، مر على خياشيمي احتراق الشاي الأحمر الممزوج بنكهة ال " ياسمين " المجفف ...


الكاتب التونسي / أ.المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الفطام الثاني"



الكاتب التونسي / أ.المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الفطام الثاني" 



Share To: