الأديب المصري / إبراهيم الديب يكتب " الشيخ عطية الغرباوي"




كان يجلس في الماضي وأنا صغير  أمام المسجد الكبير ، أعتقد بأنه ليس هناك إلا القليل ممن يتذكره كانت جلسته ظاهرها العمل وباطنها قراءة القرآن ، ليس في شهر رمضان فقط  أو في المناسبات، بل يقرأه على مدار العام، لا إنه يقرأه على مدار عمره المديد المبارك وكأنه خلق لكي يقوم بهذه الوظيفة الشريفة وهذا الطقس المقدس.


القرآن الذي يجعله أثناء القراءة: يتمايل يمنة ويسرة من شدة الوجد وكأنه يعزف سيمفونية كونية مقدسة تردد خلفه الملائكة، أو تناغم الرجل مع الكون أثناء تسبيح الكائنات لخالقها"وإن من شئء إلا يسبح بحمده" بعد أن سكن القرآن حشاه واستقر بداخله ،كان يمارس هذا الطقس وهو جالس يعمل في مهنته التي يرتزق منها وهي :صناعة المقاطف من :خوص جريد النخل في ضفيرة محكمة من صنع ماهر خبير , كنت أقف أمامه بالساعات أراقبه وهو يعمل من شدة إعجابي به, ليس إعجابي بسبب حرفته وفقط التي كنت أعدها أصعب مهنة في الوجود بأكمله، فكيف يحول الرجل الخوص إلى مقاطف وأغراض أخرى من خوص جريد النخل تحمل فيها الناس أشيائها؟ كان عمري حينا لا بتجاوز الخمس سنوات، ولكن الاعجاب تجاوز المهنة عندما نظرت في وجهه الرجل الذي يعلوه نور ،و مصدر هذا النور أعماق الرجل فهو يقبع بداخله، فترجمت ملامح وجهه ما هو مستقر في باطنه، فأصبح يعلو وجهه، ممزوج بوسامة الخلقة ولن أحدثك عن حسن الخلق ، أما السكينة وهدوء القديسين التي لن تخطئها عينك عندما تنظر إليه حينها تدرك أنك أمام رجل من أهل الله وخاصته.

 

أثناء مروري من أمامه، وكثيرا ما فعلت فلم أكن افوت تلك الفرصة وكنت أحرص عليها بشغف شديد، لعلى اطلع على سر من أسرار الرجل الذي اكبرته فكان يبدو لي شيخاً مهيبا وقورا جليلا ، كنت أقول هذه الجملة في نفسي .  لم أتخيل يوما المسجد الكبير إلا وهو جالس أمامه، أما أكثر ما كان يبعث على الدهشة في نفسي وعقلي فهو: من أين أتى الرجل بكل هذا اليقين الذي تغلغل بداخله حتي يحتقر الدنيا  ويزهدها بهذه الصورة وكأنه من يملكها فلم يتركها تتمكن منه ،كانت نظرته تقول للجميع لا أرغب في شئء من دنياكم التي يحارب بعضكم البعض من أجلها وكأنه فارقها ويعيش في الآخرة إلا قليلا وكأنه شاهد الجنة ورأى النار من شدة بصيرته فعمل ما يقربه من الجنة ويباعد بينه وبين النار.


لم أشاهده يوما قط يطلب شيئاً من أحد، هل كنت أتخيل أن بقعة الأرض التي كان يجلس لها بكته كثيراً بعد وفاته وأنها ما تزال حزينة على فراقه ،؟




الأديب المصري / إبراهيم الديب يكتب " الشيخ عطية الغرباوي"


Share To: