القاص المغربي / عبد الله البقالي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "السوليما"
أتعرف ماذا كان يعني في تلك الطفولة البعيدة أن تسمع الاطفال يتصايحون وهم يركضون على ذلك الشارع المتآكل الجوانب ..السوليما..السوليما ..السوليما ؟
لقد كان يعني أن يدا تمتد من الغيب لتطبق بمنتهى القوة على تلك الرتابة المهيمنة على الحياة في القرية . ومن غبارها المتصاعد، يتشكل جسر متين يمتد إلينا في ذلك الصقع القصي من العالم ليربطنا به .فنغوص للحظات بعيدا عن حياة الشقاء المصرة على تلوين الحياة بكل الالوان القاتمة. ونسترخي منتظرين أن تدب الحرارة في أحاسيسنا المحنطة ، وندعوها كي تلتقط بتركيز بالغ كل ما سيتناهى إليها بعد حين من أصوات وصور وأحاسيس لتختزنها بعناية، و لتعيش عليها شهورا أو سنوات. و تلجأ إليها كلما ازدادت الحياة قتامة .
هكذا كنا نترك أي شئ مهما تكن العواقب ونجري منجذبين بذلك الصوت الهائل المنبعث من مكبر ضخم مثبت على السيارة التي كانت تجوب الاحياء داعية الى حضور السهرة ،مشكلين قافلة من الاطفال تلاحق االسيارة أينما حلت.
لم نكن وحدنا من يفعل ذلك. حتى الكبار كانوا يجرون، لكنهم كانوا يقومون بذلك فقط في الطرقات الفرعية التي تنتهي بالاطلالة على الشارع الكبير. و لم يكونوا ليجرؤوا على الركض خلف السيارة مباشرة. إلا أننا مع ذلك كنا نحس أنهم يشاركوننا الركض
وحتى لو فعلوا، فلم يكن الامر ليثير استغرابا. فحدث مثل السوليما كفيل بتهميش كل شئ بما في ذلك الصراع المتوارث مع الغرباء أبناء الجنود المقيقمين في الثكنة العسكرية(القشلة) التي كانت من قبل حصنا للجيوش الفرنسية . إذ في مناسبة كهذه يستطيعون دخول الاحياء دون خوف من أن يعترضهم أحد.
إحساس مفعم بالسلم و الامن يلف القرية وهي تفتح رئتيها لتتنفس بعمق، وليدب في أوصالها هواء طري. لحظة تسبق ميلاد قصص وحكايات يحكيها أناس يقفزون فجأة الى الواجهة، يصنع تألقهم قدرتهم الفائقة على رسم الذهول و الاندهاش على ملامحنا عبر حكاياتهم لأبطال افلام شاهدوها في اماكن لانعرفها .
يبدأ الاستعداد للعرض. وفي انتظار ذلك نقوم برصد كل كبيرة و صغيرة، ابتداء بالتعرف على المكان ومتابعة نصب الشاشة الكبيرة، إلى تشغيل المحرك الذي يمد آلات العرض بالطاقة .
لكن أروع الصور كانت أن تنظر من بعيد الى تلك الشاشة الضخمة المؤطرة بحواش سوداء. كثيرون كانت تبدو لهم بيضاء، لكننا لم نكن نجدها كذلك
كانت رحما يعبد الطريق الى الصيرورة. دعوة لتعريةالخرافات وتجريد " الغول" من جبروته الذي طالما أخرس احتجاجات طفولة على عقم محيط لم يمنح لها مكانا فيه. اكسيرا ينفجر عبر المسام ويفتح للهواء معبرا لأجساد تختنق.
يبدأ العرض. ننطلق مغادرين المكان و الزمان، مخترقين مسارات كانت تستدعينا بالحاح لنجوب مجاهلها. مكتشفين عبر كل لمسة حنونة او همسة موحية ان الحياة ليست عدا تنازليا ينتهي بالموت فقط. بل هي سكة يعبرها على عجل قطار مثقل بترسبات احلام مثقلة بهدم التباين.
رحلة طويلة لم يكن يستردنا منها سوى ان تتخذ الشاشة لونا ابيض . لكننا كنا نظل مسمرين في اماكننا متمنين لو يستمر العرض ممتدا لآخر العمر .
نغادرنا الاماكن. يمضي كل واحد في سبيله. لكننا بشكل ما كنا نجد انفسنا نمضي في مسار واحد يفضي بنا الى اسئلة لم نكن نجد ما نداري بها مرارتها سوى كوننا كنا لا نزال نستطيع ان نحلم
حلم مصدر دفء لأجسام تتخبط في صقع كان حتاج الى الكثير من الحرارة كي تدب فيه الحياة
الآن وانا انظر الى هذه الوقائع التي تئن تحت حمل ثقيل من الوقائع التي تراكمت فوقها في الذاكرة، يهولني التحول المروع الذي تلاحق بسرعة. و الذي حول الأحياء إلى ممثلين يؤدون أدوارا في منتهى المهارة و الفنية، ويغيب فيها الشئ الأساسي في الإنسان.
زحف يتوغل داخل حياتنا كل يوم مسافة، لينحدر في دواخلنا كشلال يجرف الأسئلة و المناعة. و يخلف بصيرة معطوبة. فهل لنا من شئ نعتصم به من هذه السينيما غير أحسيس أيام السوليما؟
القاص المغربي / عبد الله البقالي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "السوليما"
Post A Comment: