الكاتب الأردني الفلسطيني / خالد جهاد يكتب :(حيفا.. إشعاع حضاري عابر للثقافات) 




حيفا.. ومن يدرك قيمتها ويدري ما تعنيه حيفا، ستتسارع نبضات قلبه شوقاً اليها، لشوارعها، لطرقاتها، لتاريخها، لجمالها وسحرها وعطرها، وتفردها بين مدن العالم بروحٍ خاصة جدا..


حيفا..وهذا الإسم الذي تعددت التأويلات لمصدره فقيل أنها مشتقة من "حف" وتعني الشاطىء، وقيل أنها مشتقة من كلمة "حي-فيع" الآرامية وتعني المكان الذي تكثر فيه الخيرات، أو من كلمة "الحيفة" وتعني الناحية أو المظلة والمحمية، وذلك لأن جبل الكرمل يحيط بالمدينة ويحميها ويظللها، ويقال أن اسمها يعود لشخصياتٍ دينية مسيحية خصوصاً بعد أن مر بها السيد المسيح عليه السلام مع السيدة مريم العذراء في طريق عودتهم من مصر ليمر بمدينة الناصرة الفلسطينية كما ورد في الإنجيل، وسماها أحد المؤرخين "بورفيريا الجديدة" للتفرقة بينها وبين "بورفيريا القديمة" الواقعة على الشاطئ اللبناني، وتعني بورفيريا  "الأرجواني" أو "المحار واللؤلؤ" الذي يستخرج من حلزون البحر في هذه المنطقة، وقيل أيضاً أن أحد أسمائها هو (سكيمينوس) وتعني باليونانية شجرة التوت نسبة إلى كثرتها في حيفا، وقيل أن اسمها جاء من الحيف والظلم بالعربية لأنها مدينة لا تسامح غزاتها وأعدائها.. ونقول باللهجة الفلسطينية وأيضاً بلهجات بلاد الشام "يا حيف" للتندم أو الغضب أو اللوم..


يعود تاريخ هذه المدينة الإستثنائية إلى ما يقارب ٧٠٠٠ عام وقد كان الكنعانيون أول من استوطنها، وقد بنى الفينيقيون الكنعانيون حيفا القديمة وتبعد كيلومترين عن مدينة حيفا الحالية، ومن خلال الأبحاث الأثرية التي أجريت في منطقة "مغارة الواد" قرب حيفا ومن خلال العديد من الإكتشافات وجدت آثارٌ تعود إلى قرابة ال ١٧,٠٠٠ سنة، وآثارٌ تعود إلى العصر الحجري القديم بمراحله الثلاث والتي تصل إلى ١٥٠,٠٠٠ سنة وقد تزيد أكثر بكثير، ووجد فيها رسومٌ ومنحوتات تؤكد أن بداية الفن الفلسطيني كانت في حيفا مع آثارٍ وبقايا لجماجم حيواناتٍ مثل الكلاب تؤكد أنهم أول من دجن الحيوانات، ونقلوا إلى جانب اكتشافات أثرية أخرى في سوريا ولبنان الإنسان من مرحلة الترحال والسعي خلف الحيوانات لأكلها إلى مرحلة المدنية والاستقرار وبدء الحضارة والزراعة واستيطان الأرض بشكل دائم لعمرانها مع رعاية الحيوانات والإستفادة منها ومن منتجاتها، وبدء تصنيع مستلزمات الحياة المنزلية كالجرار والأواني الفخارية وأدوات الطعام التي كانت نقلة نوعية للبشر ووضعتهم على طريق الحضارة..


كما ووجدت أيضاً الكثير من الاكتشافات الأثرية في منطقة "تل السمك" وتعرف باسم "شيكما" باليونانية وتعني أشجار الجميز أو التوت، وهي تلٌ قديم بجوار ساحل البحر الأبيض المتوسط الذي تطل حيفا عليه لكنه يبعد قليلاً عن ميناء حيفا، وكان الصيادون يقفون على حوافه لذلك فمياهه نظيفة وأقل تلوثاً، ففي عام ١٩٣٩ خلال فترة الإنتداب البريطاني قام البريطانيون بالتنقيب فيها ووجدوا بقايا حظيرة وحي سكني، وحمام روماني، وكنيسة صغيرة مزينة بصلبانٍ برونزية وأحواض معصرة خمر، وعدة أبنية أرضها مرصوفة جميعاً بالفسيفساء، ووجد فيها ما يقارب ٢٢ قبراً منحوتاً في الصخر، وتعود جميعها للفترات الرومانية والبيزنطية وغيرها العديد من القطع والدلائل التي تشير إلى أن منطقة تل السمك كانت آنذاك مزدهرةً بإقتصادها وعمارتها، وكان تاريخ هذه الإكتشافات وقتها يعود إلى القرن السادس في الفترة البيزنطية واكتشف لاحقاً ما هو أقدم بآلاف السنين، فقد سكنها الفينيقيون وكانوا يعصرون زيت الزيتون ويستخرجون الصبغة الأرجوانية من الأصداف ويعملون في التجارة البحرية، وعثر على بقايا لمعاصر الزيتون والأواني الفخارية والعديد من الإكتشافات الأخرى التي تدل على وجود حياةٍ مزدهرة متطورة في هذه الأرض منذ زمنٍ بعيد..


وتعد حيفا من أهم مدن فلسطين التاريخية وأهم موانئها وأكبرها منذ آلاف السنين، فموقعها في المنتصف بين الشمال الذي يمثل الساحل اللبناني والسوري وبين الجنوب الذي يتجه نحو يافا وغزة ومصر، ويصل البر بالبحر، والسهل بالجبل جعلها منفذاً مهماً لعدد من الدول على البحر الأبيض المتوسط والذي يعد واحداً من أكبر الموانىء المطلة عليه، ويمتلك أهميةً تجارية وعسكرية وسياسية، وكان يقوم بنقل بضائع فلسطين والدول المجاورة كالحمضيات والقمح ومختلف أنواع الخضروات والحبوب والنفط عبره في حركةٍ مستمرة للتبادل التجاري بين استيرادٍ وتصدير مما كان يدر عائداتٍ كبيرة وصلت عام ١٩٣٩ إلى ٧,٨ مليون جنيه فلسطيني من الواردات، ونحو ٢,٩ مليون جنيه فلسطيني من الصادرات، وقد بلغ أعلى رقم لعدد السفن الداخلة إلى ميناء حيفا إلى ٨٠٠٠ سفينة وأيضاً نفس العدد للسفن الخارجة منه عام ١٩٤٢ فجذبت التجار من الدول المجاورة للإستثمار فيها، وتاريخياً ارتبطت حيفا مع دمشق عام ١٩٠٥ بخط سكة حديد الحجاز، واتصلت بخط سكة حديد آخر عام ١٩١٨ مع مصر، وفي عام ١٩١٣ تم إنشاء خط سكة حديد (حيفا-عكا) وبدأ الإعداد لتمديد فرعٍ آخر لسكة حديد الحجاز من حيفا إلى القدس عبر العفولة وجنين ونابلس، والجدير بالذكر أنه في نفس العام تم إنشاء (شركة الإستكشاف السورية) برأسمال بريطاني للتنقيب عن النفط فيها، وفي عام ١٩٣٣ بدأت حيفا بإستقبال النفط العراقي عبر خط أنابيب نفطي يبدأ في مدينة كركوك شمال العراق، وعام ١٩٤٠ ارتبطت بخط سكة حديد مع بيروت، فأصبحت مركز نقل استراتيجي وأصبحت المقر الرئيسي لخطوط سكة الحديد وموقع المرفأ للسفن العابرة للمحيطات، والجدير بالذكر هو وجود ٦ محطات قطار في حيفا اليوم لكن محطة القطار المركزية الأولى تحولت إلى متحف يكرس لتأريخ خدمات القطار في البلاد..


وتعد حيفا اسماً مرتبطاً بالثقافة والفنون والآداب، فإلى جانب أهميتها التاريخية والجغرافية والحضارية كانت مركز إشعاعٍ فكري وانفتاحٍ حضاري وشكلت مع يافا بشكلٍ خاص مركزاً وملتقىً تنويرياً يضخ الفكر والعلم ويصدر الحضارة على مستوى المنطقة العربية بشكل ٍ بارز بالطبع مع العديد من المدن العربية، فكانت مدينة كوسموبوليتية (دولية) بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فلم تكن مجرد ميناء أو مركز ثقلٍ سياسي واقتصادي بل كانت مدينة بعطاء أممي، متعددة الأوجه واللغات والأفكار، تحافظ على موروثها الثقافي الفلسطيني والعربي والمشرقي والمرتبط ببلاد الشام مع انفتاحها على الفكر والثقافة العالمية، وتجمع على أرضها مختلف الطوائف الدينية الإسلامية والمسيحية من كاثوليك وأرثوذكس وموارنة وأرمن، إلى جانب الطائفة الدرزية والبهائيين الذين لديهم حوالي ١١ موقعًا خاصاً بهم، ويعتبرونها إلى جانب عكا مدينةً مقدسة وتعد مركزاً لديانتهم، كما تحتضن حدائق البهائيين والتي تعد واحدةً من أشهر معالم مدينة حيفا والتي أضافها اليونسكو عام ٢٠٠٨ إلى مواقع التراث العالمي والتي أقيمت على منحدرٍ جبلي ولطالما اجتذبت الكثير من السواح، وأيضاً توجد بها الطائفة الأحمدية مع دور العبادة الخاصة بأبناء هذه الطائفة..


وكانت هذه المدينة مع يافا تحتضن الصحافة والإعلام ودور النشر بمستوىً وأداء اعلامي عالي الحرفية في ظل انتعاش الحياة السياسية ووجود مختلف المذاهب الفكرية فيها، فكانت المدينة الثالثة التي صدر فيها أهم الصحف والمجلات العربية البارزة قبل الحرب العالمية الأولى لتتنوع بين يومية وأسبوعية مثل جريدة الكرمل (نصف أسبوعية)، النفير (أسبوعية)، حيفا، النفائس العصرية وغيرها الكثير..

وقفزت قفزةً كبرى بين الحربين العالميتين الأولى والثانية على مستوى العالم العربي، فعرفت بشوارعها النظيفة والمنظمة ومحلاتها التجارية وأسواقها التي كانت تضم أهم دور الأزياء والمنتجات الأوروبية والعالمية والتي كانت تتخذ من حيفا سوقاً رئيسياً لتسويق بضاعتها ليس على مستوى فلسطين بل على مستوى الدول العربية فافتتحت فروعاً لمتاجرها فيها وكانت تستقطب الزوار الآتين للسياحة والتسوق، كما كانت تولي المسرح أهميةً كبيرة فضمت أهم المسارح مثل مسرح حيفا ومسرح الميدان، وقدمت المسرحيات محلياً ووجهت الدعوة لفرقٍ مسرحية من مصر بقيادة يوسف وهبي وجورج أبيض لتقديم عروضها في حيفا، ودعماً للمسرح والأدب كانت تقيم عروضها بشكلٍ عام ومجاني وتلقى إقبالاً كبيراً، وكانت الإذاعة الفلسطينية التي انطلقت عام ١٩٣٦ محجاً للعديد من الأسماء الفنية والثقافية والوطنية العربية خاصة ً من باقي بلاد الشام والعراق ومصر مثل الموسيقار حليم الرومي والموسيقار فليمون وهبي والشاعر اللبناني بشارة الخوري والمعروف بالأخطل الصغير، والأديب المصري عباس العقاد والعلامة السوري محمد كرد علي وهو رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق.. كما غنت فيها أيضاً أم كلثوم وأسمهان وفريد الأطرش والمغنية اللبنانية لور دكاش، وكان بها العديد من صالات السينما والأندية الرياضية والثقافية والجمعيات الأهلية والمدارس الراقية والمتقدمة..


وكانت تضم جمعيتين نسويتين، الأولى إسلامية وهي "جمعية تهذيب الفتاة" والأخرى مسيحية وهي "جمعية السيدات"، كما شهدت تأسيس جمعية النهضة الإقتصادية العربية وكان من أعضائها علماء وأدباء ومحامون، وشهدت بروزاً للحياة النقابية لكل مهنة وفن، ومقراً للعمل والعمال والحركات العمالية في فلسطين، كما تأسست فيها جمعيات لتعزيز اللغة العربية والخطابة والعناية بالتعليم ونشر الكتب الأدبية، ويوجد بها عشرات المكتبات العامة والمتاحف منها متحف الفن الحديث، متحف الفن الياباني (وهو المتحف الوحيد في المنطقة العربية والذي يتخصص في الفن الياباني)، المتحف البلدي، متحف الطبيعة، المتحف الموسيقي، المتحف البحري، المتحف الأنطولوجي، بيت الفنانين، متحف الفلكلور..كما تكثر فيها العديد من الحدائق العامة والمنتزهات عدا عن قربها من الجبال والغابات..

وتاريخياً افتتحت أول مدرسة فيها عام ١٨٧٦ وضمت العديد من المدارس الحكومية والمدارس الأجنبية للذكور والإناث التي تنوعت بين فرنسية وألمانية وانجليزية وروسية، مع العديد من المنشآت التعليمية ومن أبرزها وأعرقها (الكلية الأرثوذكسية العربية) وتسمى بمدرسة النخبة والتي تحتل مكانةً مرموقة بين المدارس العربية في مدينة حيفا المحتلة والتي تتبع للكنيسة الأرثوذكسية، ومدارس راهبات الكرمليت، راهبات الناصرة، ومدرسة الكرمل ويتبعون جميعاً للكنيسة الكاثوليكية، إلى جانب مدرسة (مار يوحنا الإنجيلي) التابعة للكنيسة الأسقفية، كما تم إنشاء مدرسة صناعية عام ١٩٣٦ تقوم بتعليم العديد من الحرف الفنية كالنجارة والبرادة والحدادة وإصلاح السيارات وقامت بتخريج كوادر صناعية خبيرة..


ولا ننسى احتضانها للعديد من المعالم التاريخية والدينية والسياحيةومنها.. وادي النسناس ووادي الصليب وغابات الكرمل، مسجد الإستقلال ومسجد الجرينة، و دير الكرمل، كنيسة القديس يوحنا، كنيسة القديس لويس المارونية، وحدائق البهائيين كما ذكر سابقاً..


وامتاز المعمار في حيفا وسائر مدن فلسطين الكبرى بالطراز الشائع في بلاد الشام حيث يتشابه من حيث التصميم والبناء والأحجار المستخدمة في بنائه مع البيوت في سوريا ولبنان والأردن، كما وأن هناك علاقاتٍ عائلية تربط الكثير من عائلات حيفا مع أقاربهم هناك، كما وأن هناك العديد من فلسطينيي حيفا من أصولٍ لبنانية وسورية، فكانت العلاقات العائلية موجودة أيضاً إلى جانب الإنفتاح الإقتصادي والإجتماعي والثقافي والتجاري والتكامل بين موانىء هذه البلاد خصوصاً بين ميناء حيفا وميناء بيروت..


وطبعاً لا يمكننا إغفال تواجد العديد من الثقافات الأخرى في حيفا ومنها الوجود الألماني الذي لا يعرف عنه الكثيرون، ففي فترة الحكم العثماني ونتيجةً لتقاربه مع الحكم في ألمانيا وإدراكه لأهمية فلسطين وحيفا تم إنشاء أول مستوطنةٍ ألمانية هناك عام ١٨٦٨ من قبل عائلات قادمة من جنوب غرب ألمانيا ليستقروا في غرب حيفا، ويتم تطور وجودهم هناك فتم تعبيد الطرق وإنشاء الحدائق العامة هناك وتزويدها بكافة المرافق العامة والمدارس الألمانية وكافة وسائل الترفيه والتنظيم، وازداد نموها فأنشأت مستوطنة أخرى عام ١٨٦٩ وبدأ عدد المستوطنات في التزايد حتى تم تأسيس أول حي ألماني واسمه "كارملهايم"، وكان وجود الألمان حينها من أسباب تطور مدينة حيفا..


ونظراً لقوة العلم والثقافة والفكر ودورها في وعي الشعوب وتنويرهم والإرتقاء بهم اعتبرت القيادات الصهيونية أن بقاء مدينتي يافا وحيفا بيد العرب كارثةً للمشروع الصهيوني، كونهما يتمتعان بتأثيرٍ بالغ فكانت تصفيتهما وعزل سكانهما وتهميشهم وإحلال المهاجرين الصهاينة مكانهم ضمانةً لأمنهم واستمرار مشروعهم..


إلا أن الذاكرة الشعبية الفلسطينية باقية، وحيفا تسكن وجدانها مثل كل مدينة وقرية في فلسطين، ونتمنى أن نحقق جميعاً ذات يوم عنوان رواية الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"..


خالد جهاد..



الكاتب الأردني الفلسطيني / خالد جهاد يكتب :(حيفا.. إشعاع حضاري عابر للثقافات) 


Share To: