الكاتب المغربي / عبد الرحيم ابطي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "سعاد في المكتبة"
* * *
يشرد الذِّهن بصاحبه الفتى عن سير درسه فيما يتابع مدرِّسه الشاب المتحمِّس للقصيدة الذي يهتف بسيرة الشَّاعر و اسم حبيبته :
- بانت سعاد فقلبي اليوم ..
قراءته عذبةٌ منغَّمةٌ تستولي بمجامع قلبه الحيران ، يفرغ من بعدها لنثر الأبيات على التَّتابع شرحاً و تفسيراً .. ليتساءل الفتى الحيران ، في قرارة نفسه الظمآى إلى الحبِّ و الصفاء و السَّكينة ، كيف يملك الشَّاعر العاشق من جراءة القلب و اللِّسان ما يستعرض به على الأسماع المصغية في حضرة النبيِّ و من معه من الصَّحابة محاسن صاحبته و فتونه بها ، و ما قد يجده في حبِّها من قسوة و بعاد .. بالمناسبة يرفع للاستئذان أصبعاً خجولاً كي يطرح سؤالاً أو يسجِّل ملحوظة .. يتحفَّظ على أستاذه ، في سياق النِّقاش الدَّائر بينهما ، أن تكون " سعاد " مجرَّد اسم من الأسماء ، ينكر عليه أن يراه " كليشها فنِّياً " اقتضته مقدِّمة القصيدة و أعراف بيئتها المرعيَّة ، أن يكون كبقية الأسماء الأخرى المتداولة : خولة ، و دعد ، و هند ، و مي .. أو غير ذلك .
يهمس بُعَيْدَ الحوار لروحه القلقة المتوجِّسة من قبيل التعاطف معها متلفِّتاً محاذراً أن يسمعه واحدٌ ممَّن هم من حوله يتلصصون على وجيب القلب :
- سعاد .. ؟! .. إشراقة الشَّمس ، و اختزال مطلق الأسماء و الصِّفات .. ! .
* * *
لا يذكر كيف تناولت القلم من مكلَّفة المكتبة ، و نطقت الطِّفلة اسمها في اعتداد محتشم بالنَّفس قبل أن ترقمه أناملها البضَّة كالكريما الطريَّة على ظهر البطاقة الجاهزة لهذا الغرض :
- سعاد السُّوسي ..
ضحكت لها المكلَّفة ضحكة تشجيع و إعجاب خفيفة للسِّين المديدة ، و موسيقى صفير الصَّوت المنطوق للقارئة الصَّغيرة تنبجس في صمت المكتبة الحكيم ، من بين الشَّفتين القرمزيَّتين و الفلجة المكشوفة للأسنان اللَّبنية حديثة العهد بالتَّساقط ، هادئاً ليِّناً فيما الأصابع المحمومة رَاعِشةٌ ، و العينان المُشِعُّ بريقهما تتطلَّعان معاً إلى ما يَعِدُ به عنوان الكتاب المشتهى من فراديس سَنِيَّةٍ .
* * *
في حلقة الأذكار ، التي يفرُّ إليها كلما ضاقت به سبل الأرض أو فجاجها ، قد تتَّحد العناصر بين يديه و الأضداد ، أو تتظافر في مراقيها الأحوال و المقامات .. يُطَلِّقُ الحس إلى غير ذي رجعة لينحلَّ إسار عقله ، يرتحل إلى المعنوي المجرَّد مراوحاً بين لطيفة و أخرى ، مَرْكَبُهُ الرَّمز دوماً و المجاز شارحاً هواه منشداً إيَّاه بلسان الشَّاعر :
مقيمٌ لِلْمُقِيمَةِ في فؤادي هوى بين السُّويدا و السَّوادِ .
و وجـد ما تعيـره اللَّيالي حَفِظْتُ به عهود هوى سُعادِ .
* * *
في جوف اللَّيل ، يتمدَّد من فوق سريره فيستبدُّ بعينيه الأرق ، قد يحرِّكهما في محجريهما ملسوعاً كالأعمى في ظلمة الغرفة الضيِّقة فيما تحاصره وحيداً الأطياف و الرُّؤى ؛ و من فرجة النَّافذة المفتوحة على الشَّارع يأتيه صوت المغنِّي من بيت الجيران شاكياً مُتَوَجِّعاً :
أنا يا سُعَادُ بحبْلِ ودِّكِ وَاثِقٌ ..
يضحك منه في سريرته ضحكةً فاتِرَةً مكتومةً قبل أن يَرُدَّ عليه ساخراً منه في شماتة :
تَقْرأ سُعَادُ بِضِدِّ ما أقرأ أنا
أَقْرَأُ أَ لَمْ نَشْرَحْ فَتَقْرَأُ لي عَبَسْ .. ! .
الكاتب المغربي / عبد الرحيم ابطي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "سعاد في المكتبة"
Post A Comment: