الأديب التونسي أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "أنثى الضوء."




عاد مرهقا بعد يوم شاق قضاه بين أحضان الطبيعة يتلوى بين شعابها و حنايا مساربها ، يئن من ثقل الحياة و جراح الفاقة تثخن جسده و تدمي أصابعه..يمضي يومه يحتطب من النبات اليابس  ما تيسر ليعود و الشمس تميل إلى الانطفاء ، يصفف الحطب كالعادة ثم يردف إلى بيته الحفري المتربع في ملتقى جبلين  سحيقين ..

حدود الافق هناك لا تتجاوز قمة الجبل الاشهب و حجارته الزرقاء العاقرة، الا من نبات شوكي يصارع من أجل البقاء بما تدره الليالي الرطبة من قطرات الندى اليائسة.

يتنهد في خفية و هو يتابع فلذات أكباده يلهون بنصف رداء و سيقان عارية و بطون خاوية ، و ضحكات تملأ المكان بصداها و  تكشف اعتقاد الصبية البريء أن لا عيشة أفضل من عيشتهم ... 

ينقبض فؤاده و ينفطر مع كل آهة ترسلها رفيقة دربه ، تلك التي ما تبدلت منذ ساقتها الأقدار إليه ، و ما تبرمت من انكسار أيامها و ذبول أزهارها و زوال العطر من ثيابها...

تمر الليالي على وقع كؤوس من الشاي المر ،الذي يضفي عليه الزعتر و الشيح بعضا من السر ..فإذا بلغا خامس الكؤوس ، صبت بقايا الحشيش في حفرة الجمر الهامد و تناولت خليطا من  التراب المبلل تحك به جوانب ابريق الشاي و الكؤوس تخلصها مما علق بها من الشوائب.

لم يكن الأمر يحتاج تعقيدا كبيرا ... فوضى المكان كانت محكمة الترتيب، متقنة الألوان، صاغتها ريشة العوز بتفان منقطع النظير ..فذا فراش  بسيط من نسيج الحلفاء.. و ذاك جلد الظأن..و تلك وسادة ترابية ثابتة أعدتها سواعده السمراء في أسفل الحائط ، لتكون أشبه بالمنحدر اليسير ..و باب مشقق لإعلان انزياح الظلمة عند الصباح الاول..

و  كالعادة ، تجلس زوجته بعد ارتفاع قرص الشمس، إلى ظل مرقط يكشف عن سطح مغطى بسعف الجريد اليابس،تغزل الصوف و تنشد بصوت لا يتخطى حدود شفتيها، لحنا حزينا يقطر أسى و يسيل في الحنجرة علقما  ..و سرعان ما تنهمر تضرعاتها إلى الله كي يفتح أبواب الرزق الواسعة على زوجها و أولادها ..

كانت امرأة يخجل من صبرها الرجال و تتشظى على جدرانها صروف الدهر المتقلبة و يموت على عتباتها الملل و اليأس ... و كان زوجها يتلقى رسائلها المنحوتة بأظافرها على الاحجار و يستنير بقبس ضوئها و إشارات صبرها و صفاء معدنها...بارتياح و ثقة ... منتظرا اذن الله  برفع الجدب ./.


الأديب التونسي أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "أنثى الضوء."



الأديب التونسي أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "أنثى الضوء."




Share To: