الأديب المغربي / عبدالله بقالي يكتب "في لحظة صفو عابر"
تفقد الدفاعات مناعتها. و تتلاشى الترتيبات الخادعة التي أنفقت السنين في تشييدها. تنهار التحصينات المنيعة التي لم تزهر سوى أقنعة وتطلعات كاذبة. ترتج الخلايا السابحة في رحاب الخنوع، ويتساقط الغبار الجاثم على العدسة التي استبدلت بأخرى مصابة بعمى الألوان.
يجتاحك الذهول فلا تملك إلا القدرة على الانبهار والاندهاش. كيف حدث كل هذا ؟ وكم سنة امتصت من عمرك و أنت قابع في أنفاق هذا السراب؟
تتحرك خطوة. يلوح لك شيء ما. تمد يدا. تتحسس هذا الشيء. حركة كفيك تفصح عن شكل جدار. جدار كهف و لا شك. هو سميك، لكنه عجيب و ساحر. تستطيع أن تنام فيه حيث يمكنك أن تجزم أنك مستيقظ. وتقف فيه خارج حدود الزمن حيث تحسب أنك في صلبه. و تعيش فيه خارج حركية الحياة حيث تظن أنك المفاعل الذي يمدها بالحرارة. تنظر حواليك. يعبرك السؤال: ماذا يميز هذا الكهف عن الموت؟
إنه هذا الإعصار القادم من المسالك الباطنية و الحقائق الممقوتة. تخطو من جديد مبتعدا عن البوابة. تنفض عنك فضلات السنين و غبار القوافل التي مضت قدما إلى الأمام. تتطاير أوراق من رفوف ذاكرتك. تلتقط واحدة. تتأملها. تقرأها. ترتسم على شفتيك ابتسامة تنزاح بسرعة لتنطق تعابير وجهك بالحزن. تلوح صورة طفل بانخداع الطفولة قام يعدو هاربا من الصبا، كعصفور في غفلة من أمه غادر وكره. وعند أبعد نقطة من مساره ينبعث إغراء وجاذبية و يرتفع دعاء. يركض الطفل و يركض. تخور قواه، يخيب أمله. تلتقطه أمه. يتجدد إصراره ثم ينطلق من جديد. هل انخدعت حين ركضت بإصرار هاربا من الصبا؟
تلقي بالورقة. تلتقط أخرى. تقفز لذاكرتك وجوه و أسماء. حكايات و أحلام. صراعات و أحلاف. تتأمل الصورة. تنظر إلى الأفواه الصارخة و السواعد المفتولة، قسمات الوجوه و شارات التحدي. كيف اختفت ملامح الصورة القديمة ؟ ومن أي وقعة التقطت الصورة ؟
تمضي بك الخيوط إلى محطات و مرافئ شتى. تستعيد خرائط الزمن الذي ولى، و الرهانات التي توارت، و القضبان التي أتخمتها السنوات المصادرة ، حين قويضت بومضة نور. لكن كيف أفرغت الشحنة من دمائك؟ في أي مفترق أضعتها ؟ هل سلبت منك أم أنك تخليت عنها بعدما بدا لك أن حملها يعكر عليك صفو السكون الذي طاب لك؟
تلتقط صورة جديدة، جسمك فيها صار أكثر اكتنازا.ووجهك... آه وجهك ا بدا نصفه غير معروف، أما أنفك فقد صار أفطس كأنف بهلوان. لسانك طويل، وفمك بدا محيرا. فهو ضيق، لكنه يستطيع أن يسع خبزة كاملة دفعة واحدة. وبطنك ازداد اتساعا و كأنه استعار المساحة التي تقلصت من الرأس الذي صار في حجم بيضة . من الأبله الذي رسمك بهذا الشكل ؟
تتجه صوب المرآة. يعاودك الاطمئنان و أنت تتأمل وسامتك. تعدل من شكل رباط عنقك، ثم تتجه الى الأوراق. تبدأ في رفسها ودعكها و أنت تصرخ بأعلى صوتك: لا هذه الأوراق أوراقي. و لا هذه الصور صوري. و لا هذه الذاكرة ذاكرتي . ثم تعدو بكل قواك، ليسمع فقط صوت اصطكاك بوابة الكهف الذي بدا أن جسما ما قد اخترقها .
الأديب المغربي / عبدالله بقالي يكتب "في لحظة صفو عابر"
Post A Comment: