الأديب المغربي / عبدالله البقالي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الخبز الأبيض"
ما كرهت في طفولتي شيئا كخبز الشعير . بل لم يكن الأمر مجرد كراهية. كان شيئا أكثر قوة. فقد اعتقدت طويلا أن مسألة الوسامة و بياض البشرة مردها الى الخبز الأبيض. و ان السواد و بشاعة الصورة مردها الى خبز الشعير، وأن الافراط في تناول هذا الخبز يفضي حتما الى التهلكة.
هكذا نشأ موقفي المتصلب من هذا الخبز , موقف لم أكن أعي أني من خلاله كنت أكشف الوضعية الاقتصادية الهشة للأسرة، الشئ الذي كان يغضب الوالدة، بل ويدفعها الى أعلى درجات الغضب فلا ترى من غير تغيير موقفي سبيلا لاعادة الامور الى حالها .
في البدء كانت تحاول ذلك بهدوء . تحاورني، تحاول افهامي أن حشو المعدة بخبز الشعير أفضل من تركها فارغة أو المبيت معصب البطن. وحين لم تكن تجد صدى لمساعيها، كانت تنظر الي بحنق وتصرخ في : ليتك عشت عام ّالبون*" ّ و لو ليوم واحد لكن لا بأس ستعرف عنه كل شيئ عندما تكبر. الا أني أتساءل عن جدوى ما يملأون به مسامعكم في المدارس ان كانوا يغفلون حدثا كهذا
تصمت للحظات ثم تضيف: وحتى لو فعلوا فلن يكون ذلك ابدا بقتامة ما عشناه.
يشدني التقديم مثلما يحدث عادة ، وعندما تأكدت من استعدادي للانصات،أضافت : في تلك الايام أمحلت السماء فقحلت الأرض، طال الانتظار. امتدت الأيادي لما كان مخزونا فنفذ. وفي لحظة تغير كل شئ وبدا و كأن الحياة حنت لبدايتها، جارفة في نكوصها كل ما تم تحصيله عبر مسارها الطويل. تصور، أطنان الذهب و أموال المعمور ما عادت تساوي شيئا أمام رغيف يملأ البطن. و أراض لا يحدها البصر قويضت بحفنة من حبوب الشعير. لذلك كم غني زاد غنى...ا وكم فقير زاد فقرا !
تصمت من جديد، تحني رأسها ثم تشير به محركة محاولة رسم حجم المعاناة ثم تضيف :آه يا ولد لو رأيت هيام الناس في البراري و الفلاة باحثين عن أي شئ يخرج من صلب الأرض ! .ولو رأيت البشر الذي كان يعلو وجوههم وهم يعودون فرحين حتى ولو كانوا محملين بجذور مرة لا تستصاغ. لكنها كانت تتحول لأرغفة تضمن الاستمرار! ولو رأيت حسرة من ضاق بهم الأفق حين لم يجدوا شيئا يملأون به أفواه أطفالهم ، فاحتاروا ولم يعرفوا أيضعون حدا لعذابهم بشنق أنفسهم، أم يعطلون ذاكرتهم و يهيمون على وجه الأرض متناسين أن لهم أطفالا جياعا ينتظرون عودتهم .
تتوقف عن الحكي، يهيمن صمت طويل ثقيل مفعم بالحزن والألم. يتباطأ الزمن راسما مسارا تمتد سكته على قلوب المغلوبين البائسين الذين يمتص صرخاتهم هدير حركات دواليبه العملاقة.
تتضخم خلايا الوجدان لتطل على العالم من خلال مجهر دقيق يرصد النوايا و الأحاسيس في أرحامها. ينبثق شعور بخوف مريع . خوف من كل شئ. من الأيام و الناس. من الطبيعة و الحياة و الموت.
فضاء الغرفة نفسه كان يبدو حابلا بالتواطؤ، ينطق بتهديد صارخ ترصده الجوارح المصدومة بكونه يستطيع أن ينتفض ضد سكونه ويرسل مخلوقات صاعقة متعطشة لشئ ما، لكن هذا الشئ سيكون حتما كالفقد، كالهلاك، مخلوقات، بل أرواح ستنبثق من لا شئ. لكنها في تحولها ستستعير أجساد الآباء الذين قتلهم الغم، ووجوه الأطفال الذين انتهت بهم أحابيل وجشع السادة الى فائضين عن الوجود لا يستحقون لقمة من ذخائرهم ومخزوناتهم المكدسة.
ترعبني الصور. أبحث عن ملاذ. عن شئ ينتزعني من أعماقي. أنظر الى جنباتي مدركا أن لا مخرج من الورطة. التقت عيناي بعينيها. قرأت بوضوح رجاءها. ارتدت دعوتها خيبة بعد أن اصطدمت باعتذاري . ارتفعت كلماتها بحدة : هيا تقدم الى المائدة فأنا متعبة أريد أن أستريح .
يضيق المجال.ادفع الكلمات في حلقي فلا تبارحه، أحاول من جديد أجهش بالبكاء فتطاوعني الكلمات و أصرخ: ولكنه يقتل يا أمي .
يعود الزمن الى حركيته عبر انتفاضتها.وكأسير مهان كنت أزحف اتجاه المائدة ممددا يدا مرتعشة دون ان أحدد لها وجهة. تصطدم به ملمسه الخشن. تضاريسه المتذبذبة. لونه المتعفن.وشذرات تبن تلمع بفعل انعكاس الضياء. أقتطع شدقا. أمرره بالصحن. ألقمه فمي.أمضغه ممتزجا بالمرق والدموع المالحة. أدكه بأسناني كأنما كنت أريد أن أفنيه و أتخلص منه. أدفعه اتجاه حلقي. تكبر الممانعة. أمضغ من جديد وأحاول ابتلاعه. تنسد المسالك لتصير لبنة لا ممر يخترقها. أتصنع الانشغال بالمضغ، تنفتح الذاكرة ليلوح لي "حمور " كلب سائق الحافلة التي تربط القرية بالمدينة.حمور في سباته المأجور الممتد من مغادرة الحافلة صباحا الى حين عودتها مساء حيث يستيقظ فجأة و يبدأ في النباح , ثم يعدو بكل قواه ليختفي خلف منعرجات الطريق الغربية ااقرية و ليظهر بعد ذلك متقدما الناقلة مشكلا ما بشبه طلعة موكب. وليحوم حولها حين تتوقف بسرعة. ترحاب كان سائق الحافلة ذو الشارب الطويل يسر له. فيتجه صحبته بعد أن يترجل الى بائعة الخبز حيث يشتري رغيفا أو رغيفين أبيضين .يقطعهما و يلقي بهما الى حمور قطعة قطعة.
يتجمع الأطفال مشكلين حلقة متابعين بانتباه طقوس وجبات حمور. وكان يحدث أن يرفع عينيه و هو يضغط بفكيه القويتين قطعة من الخبز، فتلتقي عيناه بعيون المتحلقين فيبدو و كأنه يقول: آسف من أجلكم يا صغار، لكن لا تغتروا، فليست كل الكلاب تحصل على خبز أبيض مثلي .
يرتفع صوت الوالدة منتزعا اياي من شرودي: لن تبارح المائدة قبل أن تنهي حصتك من الطعام .
حكم عن أي جرم ؟ مجرد قضاء؟ولماذا لا يروق لهذا القضاء سوى أن يتخذ هذا اللون في حين أن بوسعه أن يكون أفضل دون أن يتطلب ذلك تضحيات و لا رسوما ولا استنزافا للطاقات ولا أي شئ آخر ؟
يتقوى الرفض داخلي. أبصق لقمة استعصى علي بلعها فيبدأ الجلد .
بقوة كانت تزجرني.وباصرار رهيب كانت تحاول استئصال جذور كنه مزعج من داخلي .لكني بنفس الاصرار كنت أستميت. أقاوم ,شئ واحد كان يتغير في. لون جلدي.
أركن الى الزاوية. أنتحب.أبحث عن ذنب لا يغتفر ارتكبته. عن سبب يشفع للوالدة ما فعلت بي.
استدرت جهتها .صعقت. قرأت بوضوح هزيمتها , و أهم من ذلك الدمعة التي لم تفلح في اخفائها .اقتربت مني. تحدثت بوضوح تلك المرة. اعترفت انها لا تستطيع شراء الدقيق لصنع الخبز الابيض.
هدأ روعي وجنحت للمصالحة. لكن شيئا مهما تغير داخلي. ولم تعد الدنيا واحة مستوية
الأديب المغربي / عبدالله البقالي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الخبز الأبيض"
Post A Comment: