القاص السوداني / محمد عبد المجيد جمال يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ملامح من روتين الحياة اليومي" 


القاص السوداني / محمد عبد المجيد جمال يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ملامح من روتين الحياة اليومي"


تثاءبت الشمس كسلى وهي ترنو لمخدعها الغربي ، أسراب من طيور (ود أبرق) تؤوب لأعشاشها وفي حويصلاتها غذاء الفراخ الصغيرة .. 

إصطبغ الأفق بلون الشفق كخد مراهقة ألقيت لمسمعها مفردات الغزل .. 


صوت النهر الخالد يعلو ويهبط وهو يعنّف إعتراض مساره بمتاريس الصخور الناتئة .. 

الشيخ الخمسيني يسرج حماره الهزيل نحو القرية ، تتدلى على جانبيه جرتين معبأة بالحليب الصافي ، الحليب الذي تستدره بقراته الثلاث وهن يعلفن العشب

من بدء الشروق إلى مواقيت  الدلوك .. 


يهبط الظلام رويداً والشيخ يهش حماره بطرف عصاه ليسارع من سلحفائيته  .. 


هناك في الحوش الكبير تنتظره زوجته وطفلاته الثلاث ، الحوش المُضمّخ  بأريج ريحانة مفرطة في غزارتها ، تعبقهم العطر دونما أي مقابل سوى أن ترتوي جذورها من فنية لأخرى وتذبّل بروث البقرات الثلاث .. 

الأم يمصل جوف  طفلاتها الثلاث بدنو مجئ الشيخ محملاً بالحليب .. 

هاهي تعابث في جدائل طفلتها الصغرى وتلقى عليهن أقصوصات المساء ..

هذا المساء الحالم الذي يناقل رائحة طين البحر المعربد بطمي الفيضان ، والجروف الطليقة المتسربلة لدثار خضرتها .. 


 ثمة جلبة في الخارج هاقد عاد الشيخ سارجاً حماره الهزيل ، يخلصه مما ينوء ظهره طيلة المسافة بين المزرعة والبيت والتي قد تقدر بما نحو خمسة فراسخ أو تنقص قليلاً .. 

تفتر أشداق الطفلات  عن إبتسامة مفعمة بأريحية بالغة ، حلقت الطفلات حوله كما لو فراشات نحو زهيرات مُثقلة بالرحيق

يتناولون خمستهم الخبز المبتل بالحليب المخفوق على النار ، يخلدون إلى فراشهم  بعد يوم مضنى ومستنزف لكل قطرة طاقة تستحدثها أجسادهم التعبة    .. 


هذا الشيخ الطاعن في شواغله والرهق  يبارح منزله على ظهر حمار الهزيل يكّد مصارعا طواحين الحياة والهواء معاً ، مع النداء الأول لفريضة الصبح يفضّ رمشاه  الإلتحام ، يؤدي باكورة خمسه المفروضة مع الجماعة ، ينتظر قليلاً حتى ترتفع الشمس من سكونها الشرقي ، يحمدل في سره كثيراً ويحوقل في سريرته أكثر ، يرجع لأهله وقد أعدت زوجته الشاي المُعالج بالحليب .. 

يتلمَّس الهدوء مشياً على أطرافه لكي لا يوقظ طفلاته الثلاث ، يرتشف مزاجه وقد إلتفَّ وزوجته حول النار المشتعلة من تحت إبريق الشاي .. 

يتفاكرا حول مايلزم  أسرتهم الصغيرة ، رطل شاي ومثله من السكر ، ومثليه من الزيت وأردب قمح مطحون ، عدس أرز وشعيرية كنوع من الرفاهية والتوسعة في الإنفاق ، فقد باع لتوه باقى الحصاد من موسمه الفارط .. 


يُثقل بشواغل الحياة ومتطلبات الأسرة ، بعد أخر رشفة أكثر لذة من سابقيتها بحيبات السكر المترسبة في قاع الكوب ، يودّع الخمسيني زوجته ويطبع قبلة دافئة على جبينها النّدي ، قبلة تدافق ذكريات الأيام الخوالي ، عندما كانت زهرة متفتقة في ربيعها العشرين ، ندية كانت كأوراق الصباح وعلى صفحتها تستريح تقاطر الطلول .. 


واسعة العيون كريل جفلت من شأنها أن تكون فريسة لمطاردها ، ملساء الخدين كما لو صخرة خلقاء ، في لون حنطي كحبات القمح عند أزوف الحصاد  وغنجة في دلال  حسناء وضيئة  .. 


حينها أشعلت قلب الشيخ وهو إبن العشرين وفصليّ ربيع زاهر ، كان يواعدها عند شفّة النهر قبل الأصيل ، يلقيان على مد الموج حكايات الحب ويأتيهما الجذر بمباركة النهر بما تعتمل دواخلهما المشبعة حد الطفح .. 

ذكريات تتوالى من جراب تلك الأيام الماتعة ، يوم أن تمردت على التقاليد والعرف والمجتمع من أجل فتاه المُغازِل  .. 

تلتصق في تلافيف مخيلتها تلك الثلاثة أيام ولياليها عندما نذرت صومها عن الكلام والغذاء فهي عصية على أن تكون مجرد (قدح) يواريها سُتر إبن عمه وماتقتضيه برتكولات القرية البسيطة .. 


ثلاثة أيام ولياليها إمتنعت عن الضوء والناس والطعام سوى حسوات من الماء تتشبث بها على تلابيب البقاء .. 


فكان لابُد أن يلين قلب والدها تحت نير هذا الحب وسطوه المتجذر .. 

فالحب كما التيار يجرفك في إتجاهاته متجاهلاً كل ماتصدّره تابوهات القرية والمجتمع البدائي البسيط .. 


قبّلها الشيخ على جبينها وإمتطى حماره الهزيل نحو مزرعته ، يلكز بطن الحمار بكعب قدميه ليعاجل من نسقه التباطؤي  ، فهو متلهف لزرعه وبقرات الثلاث .. 


على جانبيّ الطريق يلقي على رفاقه الكادحين تحايا الصباح والسلام وقبساً من إبتسامات ، منشرح الصدر والأضالع يمسّد على ظهر بقراته بتحنان متعاظم ، يعلفهم العشب والماء الداكن بلون الطمي ، يتبادل أخبار البلد والحكومة مع أنيسه الصاحب والممتهن ذات مهنته الكَّد والزراعة وتعليف الحيوانات .. 

يسبون الحكومة  والأتاوات المفروضة على الحصاد ، والسوق المتقدة بحرارتها ، فليلة أمس على أثير الإذاعة كان المسؤول الحكومي يصرّح برفع الدعم عن المحروقات والوقود والسلع والعلاج  و.... و..... و...... 


يوكل الشيخ أموره لمشيئة السماء وينخرط في كدّه المرهق حتى دلوك الشمس نحو مغيبها القصيَّ .. 


هكذا تمضي سحابة يومه المعبأ حد الإكتناز  حتى تتثاءب الشمس كسلى وهي ترنو لمخدعها الغربي ،  وتؤوب أسراب (ود أبرق ) لأعشاشها وفي حويصلاتها غذاء الفراخ الصغيرة .. 

 ليسرج حماره الهزيل نحو القرية ، وتتدلى على جانبيه جرتين معبأة بالحليب والبساطة  والحب الصافي ..

.

.


القاص السوداني / محمد عبد المجيد جمال يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ملامح من روتين الحياة اليومي" 







Share To: