الكاتبة التونسية / فردوس المذبوح تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "فجر كاذب" 


الكاتبة التونسية / فردوس المذبوح تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "فجر كاذب"


كان صباحا مختلفا عن المعتاد ، نهض والبشر يعلو محيّاه ، رمى بكلّ شيء في غياهب النّسيان. بدت عيناه لامعتين فرحا، نزل بسرعة وأطلق العنان لرجليه الّلتين تعوّدتا الرّاحة والخمول. وصل إلى مقصده ، أغمض عينيه بينما تيقّظت كلّ حواسّه في ترقّب ، صمت مطبق يسود المكان ، بعض المنتظرين أمثاله يرتسم الضّجر على وجوههم .إنّه يرفع السّتارة عن فصل جديد من حياته . أخيرا تلقّى إجابة عن المطالب الّتي قدّمها لإقامة معرض للوحاته ، وصله استدعاء يطلب منه الحضور الفوريّ .

كان يقضي السّاعات الطّوال يصوغ بفرشاته ما يرتسم في خياله من حكايا وصور. يجسّم أبطالا توقّفت حركتهم في دقّة فائقة ، لكم يتفنّن في ضبط الأطر وتأثيث الّلوحات بما يناسب شخوصها إن وجدت. إنّه منذ الصّبا مهوس بهذا الفنّ ، بارع في توزيع الألوان والظّلال ، لكم تمتلئ نفسه فرحا وغبطة عندما يرى العيون منبهرة بما تنثره فرشاته على الورق أو القماش. انجذب إلى فنّ الرّسم  وسحرته عوالمه الفاتنة فاستسلم لأناقة الخطوط و لسحر الألوان.

طال انتظاره ، لفّه دوار خفيف ، استمع الى الرّقم الّذي تردّد صداه في المكان تنبيها للغافلين عن اللّوحة الرّقمية. تحفّزت حواسّه من جديد ، نظر إلى الرّقم الّذي بين يديه ، مازال دوره بعيدا. ظلّ يرزح تحت نير سأمه ، نظر إلى الباب الّذي دخل إليه أحدهم وتركه نصف موارب. اختلس السّمع إلى ما بداخله وكان قريبا منه...

- أخيرا تخلّيت عن تهوّرك وابتعدت عن التّيّار الّذي جرفك؟؟ مبارك لك يمكنك إقامة معرضك..

جعلت مساحات حلمه تضيق تدريجيّا بعد ما سمعه ، أحسّ أنّ أفكاره تبعثره كسفينة دون ربّان، سالت على وجهه قطرات عرق تفصّدت من جبينه في ذلك الحرّ ، تذكّر الأمل الّذي شيّد في ذهنه صورا مبهجة، تخيّل المعرض الذي سيغصّ بالزّائرين والمشترين والشّهرة الّتي ستزيح عنه غبار الجمود ..إنّه يشعر بالخجل من نفسه لو اختبأ كفأر مذعور ولم يجعل فنّه ناطقا بآلام مجتمعه ناقدا لكلّ نقائصه.

فارت صرخة من داخل جوفه :"لن أكون في برج عاجيّ "

استمع إلى ترديد رقمه فانتبه من خيالاته ، توجّه إلى المكتب ، جلس وفي ذهنه توجّس وريبة. انبرى الصّوت يطنّ في أذنيه:

_عرضنا نسخا من رسومك على الّلجنة..

هزّ رأسه موافقا وقد قرأ في عيني الرّجل شبه إدانة ، واصل الرّجل وهو يرتّب أوراقا كثيرة بين يديه :

_ ملامح بعض شخصيّاتك تحيل على رموز كبيرة في السّلطة..

تلقّى الطّعنة الأولى بل هو خنجر دامٍ أغمد في أعماق روحه. ابتلع خيبته وأجاب :

_أنا فنّان أعتصر من الواقع ألوانا أجسّمها .

_بل خيالك الجامح يحطّ من علية القوم ، هل تمارس فنّا وأنت تضع رأس صاحب السّلطة بين المطرقة والسندان؟ أو تجرّد الملك من تاجه وصولجانه وتلقي به وراء القضبان؟ هذا غيض من فيض يا حضرة الفنّان...

ترك كلامه في نفسه ندوبا لكنّه أجابه وقد توتّرت قسمات وجهه :

_إنّكم تصادرون فنّي وتلجمون فرشاتي ، هل أصبح المبدع غولا يرعبكم؟ لم هذا التّجنّي على فنّ قابل لعديد التّأويلات؟

_ إنّك تفتح أبواب التّمرّد والعصيان بفنّك الّذي يعكّر صفو النّظام..

_ لكن الفنّ رسالة..

_ رسالة تدمير وهدم ؟؟ يجب أن تحضر تلك الّلوحات لإعدامها وإلاّ اجتثثنا رأس الحيّة وحاكمناك بتهمة بثّ البلبلة وإقلاق النّظام..

هدّ ذلك الكلام كلّ عروش أمله .حشرجت أنفاسه وهو يقول:"ويل للفنّ من طغيانكم" قابلته نظرة زاجرة فانبرى يجرّ رجليه كمومياء أخرجت من مدفنها ، لكنّ الأمل عاوده ، لا بدّ أن ينبلج فجر جديد ترى فيه كل ّ رسوماته النّور ويعتلي فيه الفنّان المرتبة التي يستحقّها . مشى وحيدا في ثنايا المدينة الكئيبة .كانت كلّ الأبواب موصدة في طريقه ، أطلق نظرة إلى الأمام مبتسما لكنّه لم يكن يعلم أنّ في ذلك الفجر الذي يأمل في انبلاجه سيصبح الفنّ محرّما وستقتلع اللوحات الفنّيّة وتحرق وسيصبح الفنّان رمزا من رموز الكفر...


                  




Share To: