الأديب المغربي / عبد الله البقالي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "من ذاكرة المسيد : التحريرة"
باكرا تعلمنا أن إرضاء انفسنا يمر حتما عبر إرضاء الآخرين. ليس تواضعا منا أو نكران للذات. بل هو إجبار و رضوخ يجعل الآخرين هم الفعل و نحن - الأطفال- هم الصدى. لتصبح سعادتنا مجرد متعة نقتطعها من مزاجهم الذي علينا أن نبذل قصارى الجهود من أجل تعديله. و مع إدراك مسبق أن فشلنا سيحولنا إلى مجرد أوراق يابسة متناثرة في مسار إعصار.
هي الخلاصة الأولى من دروس المسيد. خلاصة مستنتجة من مسألة "التحريرة". و للعلم فالتحريرة هي ذلك القدر من المال الذي يتبرع به صاحب حفل قد يكون ختانا أو عقيقة أو خطبة أو عرسا. وهو تبرع غير ملزم، و لا يقع ضمن بنود الاتفاق الذي تم بين الكبار و الفقيه، و الذي بموجبه قبل الفقيه أن يحفظ القرآن للطلبة. لكن هناك عقدة أخرى غير مكتوبة بين الفقيه و "المحاضرية" طلبته. تنص على أنه في حال حصول الطلبة على مبلغ يفوق العشرين سنتيما، فإن الفقيه سيعلن ذلك اليوم يوم عطلة.
كان في المسألة الكثير من الإغراء، يدرك الفقيه أن طلبته يعونه بشكل جيد. و أن الطلبة سيوظفون كل طاقاتهم من أجل الحصول على عطلة. كل السبل كانت تسخر لخدمة الغاية. تكرار افرز مواهب و طاقات كانت تحسن الاستعطاف و المناشدات و التوسل.
كنا جميعا نبحث بأي طريقة على جعل أجسادنا في مناى لبعض الوقت من قضبان الفقيه المتنوعة" البري و السفرجل .." التكتيكية و الاستراتيجية. القصيرة و المتوسطة و البعيدة المدى، ناهيك عن الصراخ الذي كان يزلزل جدران المسيد و الذي كان صداه يتواصل في مسامعنا لأوقات طويلة.
كانت لحظاتنا الاكثر صدقا و توحدا. غاية كانت تصنع انسجامنا وتكثف و تركز إمكانياتنا حول قضية واحد. الحصول على التحريرة.
في تلك المساعي و الأشواط الطويلة، تمكنا من إنجاز خريطة دقيقة لطباع الناس و أريحيتهم أو ضيقهم. كم من أشخاص أحببناهم بصدق. و كم من أناس مقتناهم و ظللنا نحفظ اعتبارهم ذاك رغم تبدل الزمن و الأحوال. أناس احتفظنا لهم بروعة الطباع حين تجاوبوا مع طموحاتانا الصغيرة و لم يجنحوا أن يعكروا صفو رغباتنا و احلامنا العابرة، فأفسحوا للفرح ممرات كي تتمدد خارج بيوتهم لتصل إلى قلوبنا. و آخرين احتفظنا لهم بكل أشكال النقمة و المقت أحيانا. أناس لم ينفع معهم استجداء و لا توسل و لا تقبيل الأيادي. كل الأشكال قوبلت بعبوس و تجهم و حتى النهر أحيانا.
كنا نبتعد قليلا. بعدها يحين دور عميد الطلبة الذي يخرج قلما قصبيا يكسره على عتبة صاحب الحفل.
كان تكسير القلم يهدئ بعض غضبنا رغم أننا لم نكن ندرك المغزى من تكسير القلم على العتبة. و بعدها نولي الادبار بمعنويات منحطة. واعين بشكل جيد أن ضربات الفقيه ستكون أشد قسوة و أكثر عدوانية.
أستعيد كل ذلك الآن مصحوبا بالكثير من الأسماء و الوقائع. لكن برغم مرور كل هذا الزمن، إلا أني أشعر بكوني لا زلت أعيش الأجواء نفسها. كيف لا و نحن لا زلنا في نفس الفضاء التعليمي. فضاء أنتج و لا يزال ينتج اجيالا هاجسها الأول هو الحصول على عطل.
الأديب المغربي / عبد الله البقالي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "من ذاكرة المسيد : التحريرة"
Post A Comment: