الكاتب السوداني / أحمد سليمان أبكر يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "عصامي"
***
ظروف عائلته نأت به عن ظل التعليم ودفعت به سعيًا وراء الرزق فانطلق إلى معترك الحياة غلامًا طريًا، ليتربى في أحضان المرارة والشدة قبل أن يستقيم عوده،ويقوى ساعده،فلقد توفى والده وتركه وراءه وهو لم يزل في السابعة من عمره؛وسط أسرة جميعها من البنات،وكان عليه أن يعمل في توفير سبل العيش لهذه الأسرة،فأخذ يلتقط الرزق حيثما اتفق،إما حمالًا لمن يريد،أو كنّاسًا يجمع القمامة من أمام المتاجر ويُلقي بها في السلّات،وغير ذلك من أعمال كسب اليوم باليوم، وما زال كذلك حتى ناداه ذات يوم شيخ صبوح الوجه، كريم النفس، مترع بماء الشفقة والعطف،وقد رأى تفانيه في أداء ما يوكل إليه من أعمال،بكل همة ونشاط،ولما ذهب إليه بأدب واستعداد للخدمة، عرض عليه أن يعمل عنده بائعًا في متجره،فقبل دون تردد،وتسلّم العمل في الحال،وهو يتدفق حيوية ونشاط،وكلما مضى يوم اطمأن الشيخ إلى سلوكه وأدبه وأمانته،وأثبت هو بدوره أنه أهل للثقة،وقد أعانه على النجاح من بعد توفيق الله له،براعته في الحساب،رغـــم أن زاده من المــعرفة أربعة أشهر لا غير؛ قضاها في
الكتّاب خلال سنين طفولته وهو وبالكاد يستطيع أن يكتب اسمه.
تكتنفه دوامة تكاد تقتلعه من جذوره، كلما وقف أمام المتجر وهو يتابع تيار التلاميذ والطلاب وهم يحملون حقائبهم جيئةً وذهابًا إلى مدارسهم ومعاهدهم وجامعتهم،يحاول طرد أفكار المقارنة المضنية بينه وبينهم من رأسه دون جدوى،والحسرات تضطرب في نفسه أشد الاضطراب، وهو ساكن أشد السكون، سكون يطول عليه فيجهده ويضطره إلى الجلوس، وربما أخذته إغفاءة وهو جالس في مكانه ولكنه يهب فزعًا مذعورًا؛ فقد سمع صوتًا يدعوه بهذه الكلمة التي رنت في آذانه أعوامًا وأعواما: هيا يا بني دع عنك الكسل! يهب فزعًا مذعورًا،لأن الزبائن يحتشدون،حتى إذا فرغ منهم عاد إلى سكونه وجموده في ركن من أركان المتجر، وقد أخذ يتسرب الى نفسه شعور حزين، جراء الأمية التي تكتنفه، وهو يقدر في نفسه لو أنه تخلص منها،وما زالت تلك الحسرات تنتابه وتعتصره حتى هداه تفكيره ذات يوم إلى اللحاق بركب العلم والمعرفة من خلال تعليم نفسه بنفسه، ثم تتابعت الأيام على أنغام أمله المنشود،وقد أجاد القراءة وأحسن الكتابة،واستقل بعمله الخاص الذي تمثل في مكتبة صغيرة لبيع المستــلزمات المدرسية؛بعد أن استغنى ورثة الشيخ عن خدماته
عقب انتــقال والدهم إلى جـــوار ربه.
واصل تمسكه بأذيال العلم، سار وراءه كطفل يلاحق أمه، محدقًا ببهائه، متذوقًا لحلاوته، مجذوبًا بالقوة الخفية الكامنة فيه مستصحبًا مع كل ذلك شأن أخواته اللائى لم يغفل عن أمرهن لحظة واحدة حتى تزوجت آخرهن قبل عام من رحيل والدته الذي ترك له فراغًا كبيرًا وحزنًا عميقًا، حاول جاهدًا في ملأ الأول وتخفيف الثاني بالمداولة بين العمل والذهاب إلى دور العلم بصورة رسمية،وقد أثر العلم في حياته أبعد الأثر وأعمقه، بل وجدد معرفته بالحياة وشعورها بها شعورًا عميقًا غيّر نظرته إلى مستقبل أيامه، وأتاح لشخصيته أن تقوى وتثبت أمام تعقيدات الحياة وصعابها.
مضت الأعوام،نال درجة الدكتورة في سن الخامسة والثلاثين استأنف حياةً جديدةً،بأوسع معاني هذه الكلمة وأعمقها،وقد ظفر بتلك الفاتنة التي تساكنه في الحي،وهي التي كانت تشعل جذوة في أعماقه كلما مرت من أمام المكتبة،فاقترن بها دون أن ينفق ما تعوّد المحبون أن ينفقوا من وقت أيام حبهم الأولى وهم يسبحون في عالم الخيال المترع بالأحلام.
***
Post A Comment: