الكاتب والقاص المغربي / عبد الله البقالي يكتب : سور العاطلين

 

الكاتب والقاص المغربي / عبد الله البقالي يكتب : سور العاطلين


يوم رحل الفرنسيون عن القرية، وجد نفسه وحيدا كاسمه الفرنسي الغريب. وكل يوم مر بعد ذلك، لم يزده إلا اقتناعا في أن ما يحدث ليس سوى انهيار ونكوص .

جلسته الانفرادية بين أطلال الراحلين في "لاس راص " وحدها كانت تهدئ من روعه، وتمنحه دفئا يعمل أثناءه على النبش في ذاكرته. لكن مروره أمام سور العاطلين، كان له مفعولا مختلفا كليا. هذا السور الذي شيده الفرنسيون عند أسفل منحدر. وعملوا على ملئ الفراغ الذي يفصله عن حافة الربوة، فسمح ذلك بمد الشارع الذي يربط شرق القرية بغربها . وقد تبقى منه جزء بارز من الارض، رآه تدريجيا يتحول الى مجالس تضم روادا من مختلف الأعمار.

في الجهة الشرقية المحادية للمسجد يجلس الشيوخ. و ابتداء من منتصفه إلى أقصى الجهة الغربية يجلس الشباب فالصغار في مواجهة مقهى" لاجودان". هذه المقهى التي اكتسبت شهرة مهمة بالرغم من حداثتها. فعلى شرفتها المطلة على الشارع خطبت شخصية مهمة حين زارت القرية. وفيها كان يحلو لأفراد الورش الدولي أن يجلسوا، فيرقصون و يغنون. وقد يشتري بعضهم قطعا من الحلوى ويقذف بها للأطفال الذين يتكالبون على جمعها .

لكن أهم من هذا كله أن المقهى ارتبطت بكل جديد عرفته القرية. فمن داخل فضائها صدحت موسيقى أول أسطوانة عبر الفونوغراف . وفيها شوهدت أول صورة على شاشة التلفاز . ولعل لاجودان كان يحس بالفخر و الزهو وهو ينظر إلى أولئك الذين ادهشتهم مقتنيات مقهاه العجيبة، فلا يتردد في مخاطبتهم قائلا : " لو كان بامكاني أن أحمل باريس إلى هنا لفعلت "

وحده "غيو" كان الغضب يغلي في صدره وهو يمر محاديا السور . يسأل مرافقا له : ألا تلاحظ شيئا في هذا السور ؟

يرد المرافق : لقد تضاعف عدد الرواد منذ أن اقتنى لاجودان الفونوغراف .

يعقب غيو : لا .. ليس ذلك هو المهم . تأمل جيدا هذا التسلسل. الطفل عندما يولد في هذه القرية يجد له مكانا في الجهة الغربية من السور . وعندما يشب، ينتقل الى منتصفه. وعندما يشيخ ، يجلس مجاورا المسجد. وعندما سيموت ،سيكتشف متأخرا أنه أتى إلى هذا العالم كي يقوم برحلة عبر مراتب هذا السور اللعين .

ضحكة متدرجة تتعالى ، انه "خاي لحسن" يسأل غيو مستفزا : أخفت أن ينسينا الفونوغراف مواويل أيام شبابك ؟ لا تقلق. سنظل نحتفظ بذاكرة قوية .

صوت انفجار عنيف يدوي في أعلى الفضاء . يعقبه احتجاج عفوي حاد من قبل سيدتين كانتا تمران بالقرب من السور. تقول احداهما للأخرى: "أولايلاه" كانت الطيارة الحمراء أكثر رأفة بنا .

ترد عليها الأخرى : لماذا تنزعجين ؟ ألا تعرفين أن هذه البلاد هي ميدان للتدريب. كل الوافدين إلى هنا ابتداء من الطبيب و انتهاء بالمعلم و الممرض لا يفعلون ذلك إلا من أجل استكمال خبرتهم فينا . فلماذا لا تفعل ذلك الطائرات العسكرية ؟

يعقب غيو بلا مقدمات على حوارهما : ألم تعرفا لماذا تفعل الطائرات ذلك ؟ 

ترد احداهما : ومن أين لنا أن نعرف ؟

يجيب غيو : لأن الناس هنا لا يفعلون شيئا غير الجلوس على هذا السور.

في آخر مرة مر فيها غيو أمام السور، كان يوم أحيل على التقاعد . مر بلباس مدني . تجاوز السور صامتا . وعندما وصل الى نقطة بعيدة ، قفل راجعا . وقف قبالة الحلقة الشرقية وقال محاولا أن يوصل صوته إلى أبعد نقطة ممكنة : سيظل هذا السور يتمدد حتى يكتسح أرواحكم التي لن تغدو غير لبنة داخل أحشائه .

بعدها اختفى عن الأنظار . و استسلم لعزلة طويلة رهيبة . أشياء كثيرة تغيرت أثناءها . اذ لم يعد التجديد يدخل القرية عبر مقهى لاجودان التي صارت الآن بالية . كما أن سور العاطلين انضافت له معلمة جديدة عبارة عن تمثال مبهم لا معنى له ، سماه البعض اله القحط .

ماذا لو يفك غيو عزلته عن نفسه الآن و يقوم بجولة جديد عبر ربوع القرية . لا شك أنه سيقف على تغييرات كثيرة أهمها أن سور العاطلين لم يعد غير مركز لفروع ممتدة فوق كل شبر من تراب القرية . ومن يدري ، فلربما هو نفسه الآن جالس على فرع لذلك السور داخل غرفته المعزولة .




الكاتب والقاص المغربي / عبد الله البقالي يكتب : سور العاطلين




Share To: