الأديب المغربي / عبد الله البقالي يكتب نصًا تحت عنوان "داء فقدان الانتماء"
المركز و الهامش أو هامش الهامش .
لم يكن الهامش يعني لي لزمن طويل أكثر من ذلك الفهم الذي حددته الدفاتر المدرسية. مساحة عمودية تقع يمين الخط الأحمر، وحواش تقع أعلى و أسفل الصفحة لا تخترقها خطوط عمودية مما يجعلها غير صالحة للكتابة. وحتى أولئك الذين أصروا على تسويدها كان ينظر إليهم بغرابة، بينما احتفظ الهماش خلف الخط الاحمر برهبة كانت أقرب إلى القداسة لكونه اختص بالتقييم بلون أحمر مخيف كان يجعل الوجوه تنطق بالبشر أو تتحدث الملامح بلغة الاكتئاب.
الآن أتساءل ما إن كانت تراكمات الحياة و تحولاتها قد أضافت جديدا للفهم الطفولي لمعنى الهامش باستثناء كونها جعلت الهامش يتبادل موقعه مع المركز من حيث المساحة و الحجم. ما يدعم اعتقادي هذا هو الأعداد الهائلة من البشر التي تنضم بوثيرة تصاعدية إلى لوائح الفقر و الحاجة، و اخرى مماثلة تتوارى خارج دوائر الاهتمام بمختلف أشكاله و أنواعه. يضاف لكل هذا أفق الامل الذي لا يعرف التطور إلا في اتجاه الضيق و الانحصار، و تكسير السلم الوحيد الذي كان بإمكان القادمين من العوالم السفلى تسلقه من أجل الرقي اجتماعيا. وكل هذا يجعل السواد الاعظم من المجتمع يصاب بفيروس داء فقدان الانتماء . خصوصا إذا كان المركز يعني مساحة دافئة تقع في زاوية مواتية لتمركز الشمس، وبساطا لا تتحلله الانحدارات و الانعراجات الحادة. و زمنا مسترسلا ينتقل على سلم لا تحدث فيه رجات و انتقالات فجائية إلا إذا كانت تصاعدية تمضي نحو القمة.
و إذا كانت الحياة قد صارت بهذه المواصفات، فهل لا زال بوسع فهمي القديم لمعنى الهامش أن يصمد مدعوما في ذلك بأن الهامش هو مساجة لا تصلح للكتابة؟
الحقيقة أني إن اعتبرت الحياة هي نوع من الكتابة، فإنه يتوجب الإقرار بأن الكتابة مستمرة حتى في حال الاعتراف بان التهميش صار هو القاعدة،و ان التمركز صار هو الاستثناء. و ان ذلك مرده إلى الطبيعة الانسانية الميالة إلى التحدي و الرغبة في مواصلة الحياة. لكن المختلف في الأمر هو المنطق الذي تعاش به الحياة. ان الحياة مرتبطة بالصراع. والعوالم الهامشية تعيش صراعا هي الاخرى. لكن الفقر بشتى أشكاله يوجه الصراع نحو منحى مختلف يقوم على بناء علاقة مماثلة لتلك التي تربطه بالمركز. و ينتج هو الآخر مركزه الخاص الذي يتمدد على جنباته هامش مضعف، لتصبح غاية الغايات لمن يتخبط فيه، هي أن لا يكون مهمش المهمشين.
عالم ضار تتمثل فيه العبقرية فيمن يستطيع ان يوظف سطوته على العوالم السفلى و يطوعها للحد الذي تتحول إلى ادراج تقدم هدية لمن يستطيع ان يدفع اكثر من المتسلقين القادمين من العالم الآخر الذي يحلمون فيه بالوصول إلى أبراجه العالية. ذلك العالم الذي يزداد ابتعادا و مناعة بقدر نجاحه في توسع رقعة الهامش و تمديد المسافة التي تفصله عنه، و الاجهاز على ما تبقى من فرص الحياة فيه. غير أنه في العالم القصي من رحاب الهامش، تنشا حياة مختلفة. شخوص يبدون و كانهم نتاج وصفة مغايرة. صحيح أن لهم عيون، لكنها لا تنظر للأعالي ولا حتى لما يحيطها. لهم انوف ، لكنها لا تلتقط الروائح الشهية القادمة من مطابخ الأثرياء التي يحملها الأثير. لهم مخيلة، لكن صرامة واقعية الحياة لا تجلعهم يحلمون بأرصدة خرافية، و لا حتى بسيارات فارهة . بل وقد لا يكون في تلك العوالم التي حلمون بها طرقات أصلا.
الأديب المغربي / عبد الله البقالي يكتب نصًا تحت عنوان "داء فقدان الانتماء"
Post A Comment: