الكاتب السوداني / أحمد سليمان أبكر يكتب : عاشق السحاب
***
لا يرى فيما يرى من المناظر الجميلة والمشاهد الفاتنة المؤثرة منظرًا أبدع ولا أجمل ولا أعلق بالقلب ولا أشهى إلى النفس من منظر السحاب الذي يسمونه (المزن).
لم يعد يستطيع ببصيص نور عينيه،رغم نظارته السميكة، أن يميز الأشياء والناس عندما يخرج إلى التل المطل على القرية في بداية نزهة الصباح اليومية، هذه النزهة هي المتعة الوحيدة التي تبقت له من رحلة العمر الطويل، هو ليس وحيدًا رغم أعوامه التسعين، بل دائمًا بصحبة عصاته، يتشبث بها ليميز الأشياء ويأمن الطريق، إذا خانه النظر الذي لم يبقى منه الكثير.
أمعن ببقايا النظر، حاول تحريك ذاكرة ملساء، قال بعد أن رجّح أن الذي يراه هو سحاب: أنحن في ففصل الخريف؟
أخذ السحاب يسبح على سطح ذاكرته، وهو يشمله بنسمات لطيفة أليفة تغريه بالتذكر.
ولد وترعرع في هذه القرية الوديعة التي تهطل أمطارها مرتين وأحيانًا ثلاث مرات في اليوم الواحد من أيام الخريف المزهرة السخية. يستعذب هطول المطر ويتمنى أن لا يكف أبدًا من الهطول، ويفتنه هذا بوجه خاص عندما تهطل قبيل مواعيد الذهاب إلى الحقل،وتصم أذنيه عن سماع صوت والده الذي يحثه على العمل في الصباح الباكر، هكذا كانت حاله دومًا وحال الأمطار التي لا تكف أبدًا عن إدهاشه ولا يكف هو عن إبداء هذا الكم الذي يعتمل في دواخله من انبهار شغيف حتى يفيض على صفحة وجهه ويصفعه، وقد أثلج صدوره وملأ فضاء نفسه راحةً وسكينةً.
كثيرًا ما يقف وسط الحقل مشدوهًا يحدّق في سماء تلبدت كلها بالغيوم، يستعجلها بنظراته ويغمغم كأنه يسألها أن تهطل، كي ينساب فيها، يقف من ورائه أخيه الأكبر، كان من الممكن أن يحس به لولا انجذابه للغيوم وللسماء، يتوقع منه الأخير أن يلتفت إليه،لكنه لم يفعل،يضيق من وقوفه ورائه، يصرخ بغضب وصوته الأبح يرتجف مثله:
أيها المعتوه إلى متى تظل تحدق فيها هكذا؟
حينما يكون مشدوهًا للسماء هكذا لا شيء يستطيع انتزاعه مم هو فيه، ولو كان أخيه الأكبر الأبح الصوت، وها هو يقطع على الغيوم انسيابها،وقد هاجت في وجهه وماجت وتلاطمت فيما بينها، يلتفت إليه لائمًا، ينظر إليه طويلًا ثم يسرع مبتعدًا عنه دون أن ينبس ببنت
شفة، وإذا بصوت الأخير يأتيه جارحًا:
لتعد إلى العمل أيها الأحمق، ودعك مم أنت فيه.
يقف، يدير إليه رأسه، يهم أن يقول له شيئًا لكنه يعدل، ويتابع سيره حتى يبارح الحقل متجهًا صوب التل الواقع جنوب الحقل،وما أن يصعد التل، حتى تبدأ السماء عزفها، تنثر رذاذًا هادئًا بادئ الأمر، تمضي زمنًا هكذا، ثم تقلع فجأة بالمرة، ويكون ذلك لهنيهة كأنها تجمع قواها لتعاود التغريد من جديد في عذوبة أكثر، تستمر هكذا لزمن وتكف في مهل، ثم تعاود الرذاذ بالهام شيق وآسر.لم يزل فوق التل متكدسًا على نفسه، عيناه وروحه في السماء حتى أتي ابنه ليجده جالسًا هائمًا هكذا، فأمسك به من ذراعه بهدوء دون أن يتكلم،جذبه برفق ليعود به للدار، وقد غمر السحاب البطاح بردائه الأسود، ونمت العاصفة، وغزرت الأمطار حتى خيّل إليه أن الطوفان قد جاء ثانيةً ليطهّر الأرض من أدرانها، وكأن ثورة الطبيعة قد ولدت في نفسه تلك الطمأنينة التي تجيء بعض الأحايين مظهرًا لرد الفعل فتحول نفوره من الحاضر إلى الاستئناس بالماضي.
***
الكاتب السوداني / أحمد سليمان أبكر يكتب : عاشق السحاب
Post A Comment: