الكاتب والباحث التونسي / المنصف بن إبراهيم دادي يكتب : موسم تقليع "القدّيم"


الكاتب والباحث التونسي / المنصف بن إبراهيم دادي يكتب : موسم تقليع "القدّيم"



بعيدا عن أحاديث العامّة والطامّة حول ّالكورونا" الفيروس المستجدّ وبعيدا عن أنظار بعض الكورونات المعهودة من بني البشر والمتلوّنة بالنّفاق والرّياء، قضّيت أسبوعا كاملا بين شعاب الظّاهر وتحديدا في مكان يسمّونه" غار شنينة" ولازلت أبحث عن دلالات التّسمية. هنا حيث لا صخب ولا ضجيج سوى زقزقة عصافير أو طنين نحل سارح بين الأزاهير، فلا شيء يكدّر صفو الحياة ونقاءها في هاته الرّبوع السّاحرة. جبت أرجاء المكان وصعدت إلى أعلى الجبل أستحثّ الخطى وجلست فوق صخرة صمّاء وألقيت بنظرة على الرّوابي والسّهول والتّلال والهضاب وكأنّني أستكشف المكان. شدّ انتباهي مشهد على غاية من الرّوعة والبهاء: رجال، نسوة وحتّى أطفال يتشاركون في عمليّة تقليع " القدّيم". شدّني المشهد إليه شدّا وكأنّني لأوّل مرة أرى مثله. تأمّلت مليّا في كنه عملهم حتّى لكأنّني واحد منهم، واقتربت منهم رويدا رويدا بخطى وئيدة أرقب حركاتهم وأتدقّق في سيرورة عملهم الّذي يبدو منهكا ومتعبا. ترى الواحد منهم ينحني إلى نبتة "القدّيم" واضعا في يده عودا يسمّى "زرارًا" كان قد أعدّه قبل العمل، وإذ به يلفّ جزءا من نبتة "القدّيم" حول "الزرار"لفّا سريعا ويجذب "خوصا" بكلتا يديه الصّلبتين، يتكرّر ذلك لبعض الوقت حتّى يظفر بحزمة يربطها بواسطة حبل صغير يصنعه من أعواد "القدّيم" ذاتها. أهي روعة المشهد أم دقّة العمل جعلتني أعيش الرّحلة بأدقّ تفاصيلها؟ انخرطت في هذا العمل طوعا لا كرها وبكلّ شغف خضت التّجربة. فأحضرت "زرارا" وانحنيت إلى النّبتة كما انحنوا وكأنّني استلطفها، مددت زراري إلى جزء من أعواد "القدّيم" اليافعة ثمّ قمت بلفّ هذا الجزء حوله وجذبت وإذ بي أحصل على "خوص" من "القدّيم" وأعدت العمليّة مرارا وتكرارا غير عابئ بما سأجنيه من ألم حتّى حصلت على حزمة ولكن كان هذا بعد أن لسعتني الأعواد لسعا لا شفقة فيه ولا رحمة. أيقنت أنّ العمل متعب للغاية ولكن كان لزاما عليّ أن أعرف سرّا من أسرار هذه المهنة العجيبة يجعلني أواصل مهمّتي بكلّ ثبات. وتذكّرت أنّهم كانوا يعودون بين الفينة والأخرى إلى برّاد الشّاي القابع فوق نار هادئة وهو يئنّ أنينا وكأنّه يستلطف أحدهم لكي يخرجه من نار جهنّم ولكن هيهات هيهات، فبعد طبخه يعيدونه حيث كان. نجحت في مهمّتي ولم أنجح، نجحت من ناحية أنّني استطعت تقليع حزمة وحزمتين ولكنّني لم أفلح حيث قلّعت أخواص "القدّيم" بجذورها، واستنجدت بأحدهم كي يدلّني عن سرّ الحصول على حزمة بدون جذور وطلبت منه أن يصنع لي حبلا أربط به حزمتي العرجاء ففعل، ثمّ دعاني إلى تناول كأس شاي تفوح منه روائح الإكليل والزّعتر. تمشّيت نحوه وأخذت كأس شاي أخضر وترشّفت منه الرّشفة والرّشفتين، إذ به بطعم العسل. ثمّ جلست غير بعيد من برّاد الشّاي رغم أنّي لم أكن من عاشقيه ولكن هذه المرّة أحسست أنّي وقعت في حبّه. وبقيت أستعيد قوايَ للعودة إلى هذا العمل المتعب. وجب عليّ أن أخفيَ تعبي وأن أصرّ إصرارا على العمل والجذب حتّى لا أظهر على شاكلة المنهزم، رغم أنّني متيقّن أنّ انخراطي في هذا العمل لم يكن لغاية تحصيل بعض الدّراهم وإنّما رحلة البحث حتّمت عليّ أن أستقرئ إنشائيّة هذا الفعل الإنسانيّ المكتنز روعة وإبداعا رغم صعوبته. إصراري على المواصلة كان لغاية في نفس يعقوب، فأنا أعشق الفيافي والبوادي، أحبّ أناسها وساكنيها، وكم تعجبني بساطة الحياة عندهم إذ لا خوف ولا شقاء، فالسّعادة تنبع من قلوبهم نبع الماء من تحت الأرض، أعشق فيهم العطاء الّذي لا ينضب والعفّة الّتي لا ولن تموت، فأياديهم تبدو صلبة صلابة الحجر تمرّست على هموم الزّمان وعراقيله تظهر عليها الخدوش ووخزات الإبر لكنّهم حسب ما فهمت تعوّدوا على ذلك لسنوات عديدة حتّى أضحى هذا العمل عندهم لعبة يدويّة يدرّون بها على أنفسهم أرباحا تجعلهم في غنى عن الاستعطاف لهذا أو ذاك أو الوقوع في شرك هات وهات. إنّها عزّة نفس لا مثيل لها وعفّة جديرة بالذّكر. هكذا كنت أرقبهم وأرقب نفسي بعين برّاقة وبقلب مفعم بالشّفقة عنهم لا عنّي لأنّي أعرف أن رحلتي في هذا العمل لن تطول كثيرا. تحلّ القيلولة ويحلّ معها وقت الرّاحة والاسترخاء بعد تناول الغداء الّذي تعدّه إحدى النّساء على نار وقودها أحطاب يابسة مرميّة هنا وهناك، وبسرعة تفوح من القدر روائح طعام لم أعهدها منذ سنوات عديدة وتعود بي الذّاكرة إلى الصّغر حينما كنت أرافق والديّ إلى الظّاهر لجني الزّيتون. يحضر الطّعام بطعمه اللّذيذ فيهرع الجميع لسدّ رمقهم بعد أن أخذ منهم الجوع مأخذا. بعد الغداء يستجيب الكلّ لأخذ "تعسيلة" دون وعي منه ويدخل الكلّ في سبات عميق داخل دار صغيرة تسمّى "دار الحفر" وتخال نفسك كأنّك تحت مكيّف ولكن المكيّف هنا وليد الطّبيعة حيث أشّعة الشّمش الحارقة في الخارج تقابلها برودة في خبايا التّربة، تنام ومع نومك تضمحلّ أتعاب وأتعاب كنت تحملها وتمرّ القيلولة بتعسيلتها حاملة معها نصف يوم من التّعب والعناء. بعد الظّهيرة ينهض الجميع فيتوضّأ من يتوضّأ لأداء صلاته ويشرب من يعشق الشّاي مثلي كأسا مفعما بالحيويّة ليدبّ ناموس الحركة من جديد داخل أوصال جسد خلناه لن يقوم وهاهو يعود كأن لا شيء وقع، فالرّوابي والهضاب تنادي من جديد:"هلمّوا إليّ أصحاب الهمم ففي باطني كنز لا ولن ينضب" وبأمل جارف ونفس طموحة يعود الجميع حيث كانوا وينتشرون فوق التّلال والسّفوح لتتواصل رحلة الابداع من جديد دون كلل ولا ملل ويتواصل العمل إلى قبيل الغروب بقليل حينما تنشر الشّمس أشعّتها الذّهبية في الأفق البعيد معلنة عن إنتهاء النّهار ليحلّ محلّه ليل حالك، عندها يشرع الكلّ في جمع حزمات "القدّيم" في مكان محدّد يكون قريبا من الطّريق الفرعيّة المؤدّية إلى القرى البعيدة، يجمعون حزمات "القدّيم" أكواما وأكداسا بعد وزنها ثمّ يعودون إلى ديار الحفر، وهناك يكون العشاء جاهزا تكفّلت إحدى النّسوة بإعداده وطبخه ليعود الكلّ إلى مسكنه الغائر في التّراب حيث لا ضجيج ولا ضوضاء سوى فتيل "القازة" يضيء الأرجاء وأحاديث عن هذا وذاك، أمّا الحديث عن الكورونا فقد غاب هنا بالذّات: إنّه الحجر الصحيّ في أبهى التّجلّيات. ثمّ يركن الكلّ إلى نوم عميق في ظلام حالك من المؤكّد أنّ وراءه صبحا يحمل في طيّاته ألف إبداع وإبداع...ويتواصل الإبداع...


 

الكاتب والباحث التونسي / المنصف بن إبراهيم دادي يكتب : موسم تقليع "القدّيم"



 

Share To: