الكاتب السوداني / مجاهد ميرغني يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ذات الشِفّـة الأرنـبيـة"
ضربتها زوجـة خالـها، سلمـى ضربـاً مبـرحـاً وهـي تسيـل دمـوع الرجـاء وتقـول بصـوت كالـذي يخـرج مـن الأنـف، يعلـوه الحـزن: "واللـه لـم أُخِيـفها ياخالتـي ... واللـه لـم أُخِيـفها".
لـم تكتـرث سلمـى لكـلام ريـم وواصلـت ضربـها وهـي تقـول: "خافـت من شكـلـك القبيـح يا ابنـة الجاهلـة".
لـم تـدخـل خديجـة المـدرسـة يـومـاً، فهـي لا تعـرف القـراءة ولا الكتـابـة؛ نظـراً لوفـاة أمها وهـي فـي السـادسةِ مـن عمـرها، كانـت خديجـة هـي التـي ترعـى أخـوها أحمـد إلـى أن بلـغ العشريـن مـن عمـره، قامـت بكـل واجبـات الأم تجاهـه، كان أحمـد أحيـانـاً يناديـها بأمـي فـي صغـره، فتبتسـم وتقـول لـه: "أنـا أختـك الكبيـرة يـادودي". تفـوق أحمـد فـي دراستـه وإلتحـق بكليـة الطِـب، وتخـرج فيها طبيـباً ناجحـاً متميـزاً.
فرحـت خديجـة فرحـاً شـديـداً بتخـرج أحمـد وكانـت تقـول دائـماً: "أنـا أخـت الدكتـور"، بكـل فخـر لأنـها هـي مـن اعتنت بـهِ إلـى أن وصـل لهـذا النجـاح.
تزوجـت خديجـة مـن ابـن عمهـا خـالـد الفلاح، وأنجبـت منـه ولديـن وبنـت صـغيـرة تدعـى ريـم ذات شفـةٍ أرنـبيـة، عاشـت هـي وأسرتها الحيـاة الريفيـة البسيطـة مـن إخضـرار الزرع الـذي يدخـل فـي النـفس السـرور، ولعـب الأطفـال تحـت ظـلال الأشجـار الخضـراء الممتـدة، وحيـن يجـن الليـل، يعم السكـون، ويضيـئ القمـر فـي ليـاليـهِ عتـمة الظـلام؛ فيـلعـب الأطفـال (الكوشيـل)، و(وينو شليـل)، وغيـرها مـن تفاصيـل الحيـاة الريفية الجميلـة.
سافـر أحمـد إلـى دول الغـرب بعـد أن تـزوج مـن الفتـاة التـي أحبـها حبـاً شديـداً والتى تدعـى سلمـى، هـي مـن فتيـات المـُدن، وكانـت تسيـئ معاملـة أختـه خديـجة وتنـاديـها بالجـاهلـة. تضـايـق أحمـد مـن هـذا التعامـل ولكـن؛ حبـهُ الشديـد لهـا أعمـاه عن كـل شيـئ، وكانـت هـذه هـي أحـد أسبـاب سفـره.
ولكنـه سرعـان مـا عـاد عنـدمـا سمـع بوفـاة أختـهِ وأسـرتـها فـي (حـادث مـروري)، ولـم ينـجُ منهـم إلا ريـم الفتـاة الصـغيـرة ذات الشفة الأرنبيـة.
حـزن أحمـد علـى فـراق أختـهِ وبعد قضـاء مراسـم الدفـن والعـزاء؛ فكّـر أحمـد فـي العـودة ولكـن هـذه المـرة معـه ريـم ابنـة أختـهِ الصـغيـرة، إنـتقلـت ريـم مـن الريـف وحيـاة البساطـة إلـى مدينـة، ومـن لغتـها العـربيـة البسيطـة التـي كانـت تجـد صـعوبـة فـي نطقـها؛ نسبةً للشـق الـذي فـي شفًّتِـها، إلـى لغـة لا تعرفـها البتَّـة.
عانـت ريـم أشـد المعـانـاة فـي بيـت خالـها، دون المعاملـة السيـئة التـي كانـت تلقـاها مـن زوجـة خالـها سلمـى.
لـم تستطيـع ريـم أن تـلعـب مـع أولاد خالـها لأن سلمـى كانـت تقـول أنـها تُـخيـف أطفالـها بقبح شكلها وصوتها، حتى الطعام كانوا لا يشاركونـها، فتـأكل وحـدها، وتنـام فـي غـرفتـها وحـدها. دخلـت ريـم فـي إضطـرابـات نفسيـة مـن شـدة الوحـدة التـي كانـت تعاني منـها.
وفـي ذات مـرة، سمعـت ريـم صـوت بـكـاء ابنـة خالـها الصـغيـرة، خرجـت مـن غرفتـها لتتفقـد أمرهـا، فوجدتـها وحـدها وفـي بكـاءٍ شديـد، وبيـنما تحـاول ريـم إسكاتـها دخـلـت سلمـى فوجـدت ابنـتها تبـكـى وريـم تـقـف عند رأسـها، ضـربتـها ضـربـاً مبـرحـاً، وهـي تسيـل دمـوع الرجـاء، وتقـول بصـوتٍ كالـذي يخرجُ مـن الأنـف، يعلـوه الحـزن: "واللـه لـم أُخِيـفها يـاخالتـي ... واللـه لـم أُخِيـفها"، لم تكتـرث سلمـى لكـلام ريـم، وواصلـت ضـربـها وهـي تقـول: "خـافـت مـن شـكلـك القبيـح يـا ابـنة الجـاهلـة".
رجـع أحمـد مـن العيـادة، حكـت لـه زوجتـه بـأنَّ ريـم أخافـت ابنتـنا الصـغيـرة، وجعلتـها تبـكي طـوال اليـوم واقتـرحـت لـه بـأن يـأخـذها إلـى (دار الأيتام)، فرضيَ أحمـد بهذا الإقتـراح وانتـهى الأمـر برمـي ريـم المسكينـة فـي (دار الأيتـام).
نسـيَ أحمـد بأنَّه كـان ينـادي أختـه أُم ريـم بأمـي لإهتـمامـها البالـغ بـه، وهـو لـم يقـدم لابنـتها الصـغيـرة شيئـاً مـن ذلـك الإهتـمام.
بعـد مـرور سنـوات كبـرت ابنـة أحمـد، وأُصيـبت بـورم خـبيـث فـي رأسـها، ولابـد مـن إزالتـهِ، وإلا قضـت عمـرها طـريحـة الفـراش لا تحـرك ساكنـاً، وكانـت هنـاك فقـط جـراحـة مـاهـرة لتجـري هـذه العمليـة؛ لأن نسبـة نجـاحـها ضعيفـة جـداً، وصلـت الجراحـة بطـائرتـها الخاصـة، وبعـد إجـراء العمليـة خرجـت الجراحـة مـن غرفـة العمليَّـات لتهنَّئ سلمـى بنـجاح العمليـة؛ نـزعـت كمامتـها فإذا هـي ريـم ذات الشفـة الأرنـبيـة، قـالـت لسلمى: "أُهنئُـك بنـجاح العمليـة لكـن؛ هـذه المـرة كنت أرتـدي الكمامـة كـي لا أخيـف إبنتـك المُـدللـة".
ذُهلـت سلمـى عنـدما عرفـت أن الجراحـة الماهـرة هـي ريـم ذات الشفـة الأرنـبيـة، وأنها التـي أنقـذت حيـاة إبنتـها الوحيـدة؛ نـدمـت نـدمـاً شـديـداً علـى أنـها كانـت تُسيـئ معـاملتـها.
درسـت ريـم فـي (دار الأيتـام)، كانـت تُحـرز الدرجـات العلّيا، وبعـد إكمـالهـا المـرحلـة الثانويـة؛ تـم قبولها في منـحة دراسيـة فـي إحـدى كليـات الطـب، تخـرجت منـها بتقديـر إمتيـاز وهـي الآن جراحـة ماهـرة.
الكاتب السوداني / مجاهد ميرغني يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "ذات الشِفّـة الأرنـبيـة"
Post A Comment: