الكاتبة الصحافية السودانية / هديل عبدالرحمن تكتب مقالًا تحت عنوان "كالغريق أطفو على سطح الوطن"
لم يكن لدي ما أكتبه اليوم ولم أرتب للكتابة ولم أكن أرغب بها حتى، فجميع ما قيل أو سيُقال لا يُمكن أن يصف ما حدث وما يحدث لنا هذه الفترة من المرتزقة الذين يحكمون البلاد، حجم الألم كبير جداً لا أقوى على شرحه وأشعر أنني لو إستعنت بألف معجم لا يمكنه وصف هذا الكم الهائل من القهر، والألم، والعجز، الذي بلغ الحد من ضخامته وأصبح جبالاً شاهقة من المعاناة، لكن شيئاً ما بداخلي يباغتني بقوة ويأخذني بمنتهى العنف للكتابة! قاومته كثيراً لكنني في آخر الأمر إستسلمت له، لأن قوته كانت أكبر من قدرتي وطاقتي، وأعلم أنني مهما كتبت لن تخفف كلماتي أوجاع أم فقدت فلذت كبدها، و أب فقد أغلى ما يملك، وأخت فقدت عضدها في الحياة، كلماتي مهما كانت مدى قوتها ولطفها لن تخفف ألم ثائر صغير خرج إلى الشارع يحمل أحلاماً كبيرة وكثيرة على عاتقه فقابلوه هؤلاء القتله في طريقه واطلقوا عليه وعلى أحلامه الكثير من الرصاص وعبوات متتالية من الغاز المسيل للدموع فاثتثقل حملها عليه فتناثرت في الطرقات رغماً عنه، لكنها لم تتناثر أغراضاً يمكن جمعها من جديد، بل تناثرت دماً طاهراً لا يمكن جمعه أو تعويضه.
أريد أن أخبركم أن يوم الخميس في الثلاثين من يونيو من العام الجاري ألفين وإثنان وعشرون، قام عسكر السودان بأوامر من قائدهم الأعلى ورئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان بقتل أبناء شعبة فقاموا فوراً بتنفيذ الآوامر! قتلوا ثوارنا الأحرار قنصوهم صوب رؤوسهم وفي صدورهم حتى إرتقت أرواح عشرة شهداء، ومن لم يرتقِ هو الآن في إحدى مستشفيات الخرطوم مُصاب بجروح بالغة وخطيرة، أما الأخف قدراً فهو يمتطي في سرائر المستشفى مختنقاً بعبوات الغاز المسيل للدموع، ومن لم يختنق هو الآن في السجن يعاني الويل هناك.
قتل عبدالفتاح البرهان شعبه بمنتهى الوحشية ودون رحمة وكأن هذا الشعب قتل له قتيلاً أو سرق، رزقه، وحياته وهو من يفعل كل هذا للناس. والأشد إيلاماً تلك البيانات التي يخرجون بها عند إرتكاب جرائمهم النكراء، وكذلك خبرائهم الإستراتيجيون الذين يوزعونهم في القنوات التلفزيونية العالمية لطمث الحقائق التي يعرفها ويراها الجميع .
ليس من سمع كمن رأى ومن عاصر، وعايش الظلم، والقتل، ليس كمن سمع أو قرأ، لكنني أكتب لكم بمنتهى الصدق، والشفافية، والأمانة، والوجع أكتب لكم بغصة في القلب وعبرة تخنقني تكاد أن تحبس أنفاسي بسبب مايحدث في وطني مع شعبي.
منذ أن قامت ثورة ديسمبر المجيدة وأنا أكتب في كل مكان عن الشهداء وأوثق لتضحياتهم، وكنت دائماً في حالة بحث عن أهاليهم لأحاورهم حوارات صحفية أعكس فيها للناس مدى صبرهم، وقوتهم، وفخرهم بابناءهم وإلى أي مدى هم ثابتون، ومؤمنون بقضية ابناءهم الذين مهروا دماءهم الذكية من أجلها، ولم يكتفوا بذلك بل واصبحوا ثائرون على دربهم يحققوا لهم ما أستشهدوا من أجله، أيضاً لأسباب آخرى في نفسي أهمها أنني أحاول أن أترك للأجيال القادمة دليلاً يهتدوا به كي لا يتوهوهم ويجعلوهم يتخبطوا هنا وهناك من فرط الأكاذيب، والتزوير، والتضليل عن الحقائق.
كتبت حتى عجز الكلام ودائماً أشعر أن كل ما أفعله وأقوم به جهداً خجول أمام أُناس يقدموا أرواحهم الغالية فداءً لنا وللوطن الحبيب، أستحي كل ما رأيت أسرة شهيد! لا أستطيع أن أنظر إليهم طويلاً أجد عيناي فوراً تترورغ بالدموع وكأنني لي يد في قتل أبناءهم! لا أعرف سبب هذا الشعور ربما يكون نتاج إحساس بالعرفان أو لأننى أشعر دائماً اننا مدينون بحياتنا لهؤلاء الشهداء ولأهاليهم ولهذا الوطن أيضاً، فكلاهما شارك في غرس قيمة عظيمة في شخصياتنا وعمل على بناءها من جديد بمنتهى الإنسانية والوطنية. لقد غرسوا فينا التضحية، والإيثار، وحب الوطن وشكلونا بقيم نفخر بها اليوم وسط كل هذه الأنانية، والمصلحة، والجشع،واللا إنسانية التي يعاني منها البعض.
هؤلاء الصغار الذين يملأون الشوارع بهتافات سلمية لم تؤذِ أحداً ورغم ذلك لم يسلموا من الأذى ولم تنجيهم سلميتهم من الموت، نحن من نجونا من الموت لكننا لم ننجوا من العذاب، والوجع، والحزن دفعنا ثمناً غالياً، كان أحبتنا ورفاقنا الذين غادرونا في لمحة بصر هم الثمن، غادروا وغادرت معهم أحلام وآمال وأمنيات أُجهضت قبل أن ترى النور.
جراحنا تنزف كل يوم والسودان الحبيب جريح ومستنزف وقلوبنا مفطورة على زهرة هؤلاء الشباب التي ذبلت وهي على وشك أن تتفتح، الشباب الذين خنقوا فيهم أمل الحياة وهم زهورها وفي أوج طموحهم للسعي إلى تحقيق أحلامهم.
قتلونا عسكر السودان يا قُرائي الأعزاء! إغتصبوا أحلامنا وطموحنا في بناء وطن حر ديمقراطي، دمروا شوارعنا وحدائقنا سقوها ورووها بالدم، أخافوا أطفالنا وسلبوا منهم طفولتهم وآمانهم، شردوا أهلنا وشرذموا الوطن وفككوه ليتقاسموه فيما بينهم، كل الدمار والتردي الذي يعيشه السودان الحبيب الآن بسبب عصابة السلطة التي تحكمنا، حكامه الدكتاتوريين لصوص الحكم، والأحلام، والآمال، الذين يسرقون كل ماهو جميل، لم يكتفوا بسرقة الماضى بل أستولوا على الحاضر ودمروا المستقبل، طاردونا وکبتوا حريتنا وحاربونا طويلاً لينعموا وحدهم بخيرات بلادنا ولا عزاء للبقية، البقية التي حظيت بالنجاة من الموت البقية الذين لم يتركوا لهم خياراً سوى أن يتشردوا في المنافي أو يصبحوا لقمة سائغة للحيتان في أعماق البحر، أو المحيط، والقلة التي تنجو من الموج يرجعون مرغمين ويمنون النفس بغدٍ أفضل بعيداً كبعد الثريا. فليس مع العسكر أحلام تتحقق فهي توءد لتصبح أضغاثاً يصعب حتى تصديقها وهذا ما عملوا عليه طيلة وجودهم في كرسي الحكم.
أعتذر لكل من قرأ هذا المقال أعتذر لكم من قلبي على كلماتي المغموسة بالدم، وحبر الأسى، والحزن، الحزن الذي إعتدنا عليه وأعتاد علينا، لكنني كما تشعرون من كتاباتي أصبحت كالغريق أطفوا على سطح الوطن وكلي أمل أن أمشي يوماً على أرضه ولا أسقط قبل أن أنال الحرية، والأمن، والمأوى، والأمان، الذي أستحقه في وطني ويستحقه كل مواطن سوداني مثلي.
رغم اليأس الذي أراد الإنقلابيون ذرعه فينا لكي نتأقلم ونستسلم للواقع البائس الذي يحاصروننا به من كل الجوانب ويفرضونه علينا بقوة السلاح، لكنهم فشلوا في أن يقتلوا بداخلي ذاك الحلم، حلمي بالنصر والحرية وفي الحقيقة هو ليس حلمي وحدي، بل حلم الشعب السوداني كله.
الإعتصام الذي أقاموه الثوار أمام مستشفى الجودة، والإعتصامات التي تُقام هنا وهناك، وجسارة الشباب في مواجهة العُنف والوحشية والرصاص، ملأتني بالأمل مُجدداً، لذلك وسط كل هذا الموت، والدم، والفقد، والجراح ثمة شعور عميق داخلي أصدقه واؤمن به، صوت ما يخبرني ويطمأنني بأن القيد قريباً جداً سينكسر والليل الحالك هذا سينجلي هكذا يغرد قلبي منذ أن داست الهمجية وغطرسة الطغاة على أحلام شعبي وآماله .
ستبقى قلوبنا أبداً تصدح بالحرية، والسلام، والعدالة، وتغرد بهم وسنحققهم مادمنا أحياء كيف لا وهذا وعدنا مع شهداءنا الآبرار .
الرحمة والمغفرة لكم أيها الأحرار والصبر والثبات لنا ولأهلكم وذويكم والخزي والعار على عصابة السلطة والنصر قريب أيها الشرفاء .
Post A Comment: