الكاتب الصحافي التونسي / برهان اليحياوي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "وداعا يا بحر"
إلتقيت بالبحر للمرّة الأولى في سنّ الخامسة عشر. بركة ماء كبيرة خضراء تلتصق في أقاصيها بالسّماء، فلا يفترقان أبدا بعد الانصهار، رغم كلّ المسافات الفاصلة. كانت رحلة مدرسيّة أخذتنا في فجر القرية الحالك نحو مدن بعيدة جدّا. كان عالمنا قبلها لا يتجاوز مدى البصر. وكانت رحلاتنا المتكرّرة والمتشابهة كليالي الشّتاء، لا تتجاوز مسلكا فلاحيّا يفصل "الدوّار" عن مبيت المعهد الأشبه باسطبل. لم تكن للمبيت وظيفة تتجاوز عمليّات إيواء تجمعنا ونتقاسمها ثم عشعشتنا كفراخ البطّ، إلى أن نفشل كثيرا ونُطرد أو ننجح في كل سنوات الثّانوي فننتقل إلى مدن أخرى تفتح أمامنا الآفاق أو تغلقها تماما. ارتميت بسروال "التيرقْال" البني وسط الماء. سخر المارّون من الشاطئ من موعدي الأوّل مع الموج.
قالت:
-مراهق لا تنقصه إلا سلّة خضر رخيصة، يدخل البحر كمن يلج سوقا أسبوعيّة.
كانوا يشتمونني بصوت مسموع وبلهجة ساخرة غريبة.
قال بعدها:
-أبله، جاهل، "كبّول"، "جبريّ"، أقلق أشباهه فسحتنا ولوّثوا مدينتنا.
بعد ثلاثين سنة من موعدي الأوّل مع البحر، لا أزال أتذكّر كلّ تفاصيل ذلك الحدث. ما زالت تلك النعوت تتسلّط عليّ كسياط جلّاد رشّ جراحي المتعفّنة بالملح والخلّ.
أتذكّر أنّني شتمتهم بيني وبين نفسي بعد أن قدّرت موازين القوى وقتها، ولو كنت أمتلك جسد اليوم لكسرت مؤخّراتهم رفسا:
-أشباه رجال تعوّدوا بنزع سراويلهم وإناث وزّ لم يتصالحن مع واقعهنّ وأجسادهنّ...
-هذا البحر لي ألتقيه كما أشاء... لن أنزع السّروال أبدا.
في حقيقة الأمر، لم يكن قرار السّباحة بملابسي إلا خوفا من سرقة أدباشي التي ترافقني منذ سنوات. لا يهمّ إن سُرق الشٌبشب الذي رميت به فوق رمال الشاطئ قبل احتضاني الماء المنعش. هو بطبعه مسروق من مسجد القرية، مهمّة تعويضه لن تتطلّب أكثر من انتظار صوت آذان ما في مسجد ما. أمّا السّروال والقميص يجب أن لا يسرقا.
كانت موجات الجنون قبل تلك الرحلة وبعدها، تحرّضني على الرّكض عاريا أمام كلّ مخلوقات هذا العالم البائس. ما فائدة تلك الملابس إن كنّا سنغادر العالم عراة بعد قدومنا إليه بعورات مكشوفة؟ رغبة بلغت أقصاها عندما تضخّم جسدي، وتحوّل صوتي النّاعم إلى ما يشبه صهيل حصان عجوز، ونما شعر كثيف في لحيتي وشاربي. فاقتصرت على نزع القميص لدقائق أوقات المبارزة والعراك. قرار إجباريّ للمحافظة عليه، لا غير.
أوّل مبارزة كانت مع واحد من فتوّات القرية، صخرة متحرّكة برأس ضخم وذراع أشبه بجدار حجريّ قديم. ضحك عندما طلبت مبارزته لتخليص القرية من شرّه. طلب منّي الابتعاد عنه قبل أن يعيد ختاني من جديد. ركلته ونزعت بسرعة قميصي. ألقى سيجارته. نسيت ما حدث معي بعدها. كل ما أتذكّره أنّني استفقت عندما قام باطفائها في بطني العارية.
ما إن عانقت البحر حتى انتابتني رغبة في التبوّل عليه. شعرت بموجات حرّ خفيف داخل برده الذي يشبه الجليد. كان عليه أن يغمر قريتي حتى يلقى منّي معاملة تليق به.
اعتذرت من الرّفاق الذين حاولوا التدخّل بالصّلح بيني وبين بلطجيّ القرية للحظات. وهو ما يقوم به كل من عقد جلسة كجلستنا التي جمعتنا به مرّة كلّ نصف ساعة. ابتعدت إلى أن وصلت المنزل المهجور. نزعت قميصي وعلّقته على شبّاكه القديم المتهالك. كسرت قارورة "المرناقْ" الملقاة في الرّكن. تسلّلت كلصّ بين الأشجار نحو المكان الذي انطلقت منه وغرست نصف القارورة في خاصرته. هرب الرّفاق بمجرّد رؤيتهم للدّماء الّتي سالت منه كديك ذبح للتوّ، حتّى لا يتورّطوا في جريمة لم يرتكبوها. كان يتلوّى كأرملة ودّعت زوجها الوداع الأخير قبل نصف يوم. أشعلت آخر سيجارة بقيت لديّ، أخذت نفسا عميقا وتلذّذت بصوتها وهي تنطفئ ببطئ في رقبته المتشحّمة. كسرتْ نظراته المنكسرة قلبي، فاضطررت لإنقاذه لأرسم بذلك حدّا لشرّه في المنطقة.
حان الوقت لأريحهم من عبثي الآن. ليتني أستطيع غرس قارورة زجاج مكسورة في خاصرة الموج الذي يلتهمني، انتقاما منه. العاصفة تأخذني حيث لا أريد. الأضواء التي أراها لا تنبثق من لامبيدوزا، حلم الهامش المعطّل. هي صوت سحيق ينبعث من أعماق القرية ليودعّني ولا أودّعه. دقائق مقاومة عبثيّة لموت البحار الحتميّ. أشرب من البحر قبل أن يسرق روحي، أنا أقاوم... أنا لا أخضع للجبابرة أبدا حتّى في النزّاع الأخير في حياتي. أشعر بسيف يمزّق عضلات ساقي وظهري. أشرب من عمق البحر مجدّدا، أسكر به حتى الثّمالة...
-سأتبوّل عليك مجدّدا أيّها البحر قبل أن تشرب كلّ روحي.
يباغتني إحساس بدفء قذر كفرص الحياة، في قلب محيط متجمّد قاتل. الموت قادم مع أمواج العاصفة الأخيرة. إنّي أراه يتوجّه نحوي مبتسما. ابتسم له... أضحك بهيستيريا من ملامحه الشّاحبة. أحاول أن أسخر منه قبل أن يتمكّن منّي بمساعدة الموج. ..
سأتخلّى عن كلّ ملابسي لكي تتاح لي فرصة التعرّي على الشّاطئ، إذا ما رُميت جثتي نحوه. سيكون ذلك الحلم الوحيد الذي سأناله من هذا العالم...
-وداعاً يا بحر ...ما كان يجب أن نلتقي، وداعاً. . كان علينا أن نتنازع قبل العاصفة والبدايات...
Post A Comment: