الكاتب الصحافي الأردني الفلسطيني / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان "الفلسطينيون الأفارقة.. بسمة نقية على وجه فلسطين"
يتعلم الإنسان كل يوم ما يضيف إليه سواءاً كان ذلك عن نفسه أو غيره أو عن وطنه وثقافته، والتي قد يخيل له أنه يعرفها بينما هو يألفها ويتعامل معها كأمرٍ مفروغٍ منه إن كان ذلك من ناحية العادات والتقاليد والأفكار واللهجات وحتى الكلمات التي يستخدمها في حياته اليومية، ومعرفتنا ببعض التفاصيل قد يضيف الكثير إلينا ويفتح أمامنا آفاقاً قد تغير نظرتنا حتى نحو ثقافتنا وهويتنا التعددية في مختلف بلادنا، وكما يعرف الجميع فإن مدينة القدس لها مكانتها الدينية والتاريخية والثقافية الخاصة، كما لها وجه حضاري انساني تعددي قام إلى جانب الكثير من المدن الفلسطينية بإحتضان ثقافاتٍ أخرى زارت أرضها أو مرت بها وأصبحت جزءًا منها على اختلاف أسباب زيارتها لفلسطين كالأرمن والأكراد واليونانيين والكثير من الشعوب الأخرى والتي أطلق اسمها على أحياءٍ بكاملها في مرحلةٍ لاحقة..
ومن أهم من سكن مدينة القدس وأطلق عليهم اسم أحد أحيائها هم الفلسطينيون الأفارقة والذين كانت تسمى حارتهم ب (حارة التكارنة)، وهي اسم تم تحريفه لفظياً واشتقاقه من (مملكة تكرور) وهو اسم لشعبٍ كبير من القبائل الحامية والذي أسس مملكةً إفريقية قديمة جداً امتدت من غرب السودان إلى سواحل المحيط الأطلسي في أراضٍ شاسعة امتدت من (موريتانيا والسنغال ومالي ونيجيريا والنيجر وتشاد وصولا إلى حدود دارفور في السودان)، وقد ارتبطت بأسماء قبائل وعائلاتٍ عربية مثل قبائل السلامات، البرقو، الزغاوة، البرنو، القانمبو، البلالة، الفلاتة والهاوسا والتي هي أيضاً إسمٌ للغةٌ محلية واسعة الإنتشار إفريقياً ونظراً لأهميتها الثقافية أطلقت كلٌ من هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) ومحطة راديو (RFI) الفرنسية بثها بهذه اللغة لمحاولة الوصول إلى شريحةٍ عريضة من الجمهور الإفريقي..
وقد تركز وجودهم في مدينة القدس لكن ذلك لا يعني عدم وجودهم في الكثير من المدن الفلسطينية الأخرى فقد أصبحوا جزءًا أصيلاً من نسيج الشعب الفلسطيني وتوزع انتشارهم على سائر الأرض الفلسطينية، وتولى قيادتهم عند بداية وصولهم من مملكة تكرور شيخ يلقب بشيخ التكارنة، وقد ذكر بعض المؤرخين الفلسطينيين ومنهم المؤرخ عارف العارف في كتابه المفصل في تاريخ القدس (١٩٦١) أن أصول أغلبهم تعود إلى ولاية دارفور في السودان، كما ذكر في دراساتٍ أخرى أن علاقتهم بفلسطين تعود إلى العهدين المملوكي والعثماني، إضافة ً إلى أن هنالك أيضاً العديد من العائلات الفلسطينية الإفريقية يعود أصلها إلى بلادٍ عربية أخرى مثل عائلة (جدة) والتي اعتقل بعض أفرادها في عكا العام الماضي لمشاركتهم في مظاهرات حاشدة ضد ما يحدث من نهب للبيوت في حي الشيخ جراح في مدينة القدس المحتلة، وهو ما يشير المختار (محمد جدة) إليه قائلاً "إحنا أصلنا من جدة" في مقابلة أجريت معه عام ١٩٩٧ ويعني بها مدينة جدة في المملكة العربية السعودية..
وقد تضافرت العديد من العوامل التي جعلتهم يعيشون ضمن نطاق هذا الحي في القدس وغيرها من المدن، وأولها كون الكثير من الفلسطينيين الأفارقة منخرطاً في حراسة الحرم القدسي الشريف وقرب الحي نسبياً منه حيث يتكون من مبنيين تاريخيين هما (الرباط المنصوري) و(الرباط البصيري)، واللذين أنشئا خلال العهد المملوكي في القرن الثاني عشر بالقرب من (باب الناظر) أحد البوابات المؤدية إلى الحرم القدسي الشريف، وقامت السلطات العثمانية في نهاية عهدها وتحديدًا ما بين الأعوام ١٨٩٨ و١٩١٤ بإستخدامهما كسجن، حيث عُرف الأول باسم "حبس الدم" (الرباط البصيري) وخُصص للسجناء العرب المحكوم عليهم بالإعدام، وعُرف الثاني باسم "حبس الرباط" (الرباط المنصوري) وخُصص للسجناء العرب المحكومين بفترات اعتقال مختلفة، وفي الفترة ما بعد سنة ١٩٢٩ تحول الرباطان إلى دور سكن للمقدسيين الأفارقة، عدا عن مساهمتهم على مدار قرون وليس فقط في السنوات التي تلت النكبة الفلسطينية في الدفاع عن الأرض والمقدسات عموماً كأي فلسطيني آخر بمنتهى الشجاعة والبسالة وأعلى درجات الصمود، فكانوا يواجهون المحتل ويشاركون في كل الأنشطة المقاومة له، عدا عن أن بنيتهم الجسدية القوية وطول قاماتهم كانت عاملاً مميزاً لهم وجعلت الكثير منهم يعملون في أجهزة الشرطة كما عملوا في مهنٍ مختلفة مثل العمل بالأفران وقضايا الزواج والتوكيل، ويوجد حتى اليوم حي اسمه حي السودانية داخل قطاع غزة المحاصر..
وبعيداً عن المجاملات عرف الفلسطينيون الأفارقة بحسهم الوطني وأخلاقهم وشهامتهم، وكانوا إضافةً بالغة الأهمية زادت من جمال الفسيفساء الفلسطينية التي تفخر بكل مكوناتها، ومهما قيل من تصريحات ٍ أو تعليقاتٍ تسعى لبث الفرقة أو التمييز فإن الصورة الكبرى لفلسطين والتي تضم أبنائها على اختلافاتهم هي دليلٌ على أن الأصيل يبقى والعابر يرحل مع الأيام، وسيظل الفلسطينيون الأفارقة كفاً نظيفاً لطالما عمل بجد وناضل ببسالة وتحولت سيرته العطرة إلى بسمةٍ نقية على وجه فلسطين..
بعض الصور من تصوير أندرو كورتني والبعض الآخر من مكتبة الكونغرس الأمريكي..
Post A Comment: