الأديب التونسي / أ. المختار عيادي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "قصة مهاجر سري"
غريبا يمشي تحت زخات المطر ، لا شيء يغطي رأسه و كتفيه المنحنيتين من شدة البرد ، و ليس في الجيب ما يوفر له دفء معدته الخاوية منذ أكثر من يوم.
كان رشاد قد غادر البلاد ذات ليلة صيفية على متن قارب من قوارب الهجرة السرية غير الشرعية ،مع ثلة من أبناء منطقته ، على أمل الخروج من بوتقة الفقر و التخلص من أصفاد البطالة الجاثمة على المشهد العام..حلوا بقطر أوروبي يحدوهم حلم الانطلاق و الانعتاق و عاجوا يسألون شغلا ينبت لهم ريشا للطيران ،ليودعوا به قفص الشدة و العوز ..و من نكد الحظ لم يوفق أغلبهم في إدارة الزمن الأوروبي السريع و قانون الهجرة المنيع الذي يجعلهم بين الفينة و الاخرى محل تفتيش و مراقبة أمنية صارمة تطال عقوباتها حتى من يشغلهم خفية..
الظرف العالمي في غاية الهشاشة ، سريع التأثر و الانهيار إلى درجة أن أسعار الصرف تتغير لمجرد انتحار قرد في إحدى مناطق الجذب السياحي ، فتعلن حالات الطوارئ في كل مكان خوفا على الحيوانات من الإنسان.
وصل رشاد إلى منعطف يميني في الشارع الكبير ، فاعترضه محل تجاري صغير للأكلات .. زكمت أنفه رائحة الخبز الساخن و صرخت في أعماقه أمعاؤه مستجيرة من وقع الجوع عليها.. توقف لبرهة من الزمن و تردد في الدخول ، و كان صاحب المحل يلاحظ ارتباكه و يتابع نظراته ، فخاطبه بلغة أجنبية لم يفقه رشاد معانيها .. مد خطوته الى الداخل حيث الطاولات تئن بأنواع الأكل و أشهاه ..اقترب من صاحب المحل الذي فهم لحينه أن الرجل عربي المنبت ، و أن الأقدار قد كسرته و تلاعبت الامطار بملامحه و ثيابه و تسريحة شعره..
ابتهج رشاد بقبس النور الذي سينقذه ظرفيا من الهلاك المحقق اذا استمر على حالة الجوع تلك، و بسرعة أمر الرجل النادل بإحضار ما لذ و طاب إلى الوافد المسكين، و جلس قبالته يتناولان سويا العشاء على ضوء خافت و موسيقى هادئة ، حتى أتى رشاد على آخر ما على الطاولة .
كان صاحب المطعم هو الآخر عربيا ، و كان في أمس الحاجة إلى من يؤنسه في غربته ، فعرض على رشاد أن يعمل معه في المطبخ الداخلي حيث يقوم بقص الخضر و الغلال و غسل الأواني دون الخروج إلى قاعة الأكل ..
مضت أشهر و أعوام و رشاد على تلك الحال بين العمل و غرفة النوم في الكهف السفلي ، و قد تمكن بمساعي مشغله إلى تسوية وضعيته و الحصول على الإقامة .. و بدأ حلم العودة إلى الوطن ...
حجز مكانا له في رحلة إحدى الصباحات، على متن الباخرة ، و اشترى بعض الأغراض لأهله و بعض صحبه و سيارة بهويتها الاوروبية كي تملأ أيامه في بلده ، و حافظة أوراق تتدلى على جنبه ، مجسدا ذات المشهد الذي كان يراه من بني بلدته حين عودتهم من الخارج صيفا.
شاع خبر وصوله ، فهب إلى منزل عائلته الاجوار و الأقارب و الأصحاب القدامى ، و كان يتجاذب معهم أطراف الحديث بخطاب محشو باللفظ الأجنبي مرسلا من حين إلى آخر بعض القهقهات دون داع ، باسطا عليهم بطولاته في بلد الإقامة، ناكرا كل تفاصيل العذاب التي تجرعها ، حتى أثار حفيظة زواره و بدؤوا في الانصراف، لولا أن الجو في الخارج قد تغير فجأة ، إذ تلبدت السحب و لمع البرق و انهمرت الأمطار مدرارا ... جثم رشاد على ركبتيه يتابع قوة السيل، و تذكر ليلته في مطعم الرجل العربي ...حينها أقسم على الجماعة إما أن يبيتوا عنده أو أن يقوم بإيصالهم إلى منازلهم كي لا يصيبهم بلل.
Post A Comment: