الكاتب التونسي / عبد الرزاق بن علي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "زهايمر" 


الكاتب التونسي / عبد الرزاق بن علي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "زهايمر"




كلما تحدث عنها فاضت عيناه وارتجفت يداه وازدادت دقات قلبه . كنا ننتظر حلول العطلة الصيفية حتى نجتمع به  نحن أحفاده وكلنا شوق لنستمع الى حكاياته التي لا تنفذ. عاش جدي فترة الاستعمار وعانى ألم الفقد وخرقة الاحزان ،... كان وعشيرته لا يستقرون بمكان حتى تدفعهم ويلات الحرب الي البحث عن مكان آخر أقل خطرا فكان ذلك دأب سنوات الجمر التي طالت قبل ان يغادر الجراد البلاد دون رجعة . كان المجتمع مفككا قد مزقت الحرب الضروس اوصاله وارتفع عدد الارامل والثكالى و اطبق الفقر والمجاعة والوباء على من نجا من رصاص المحتل . رغم شدة حزنه والمه الذي ارتسم لوحة معبرة على محياه كلما سرد على اذاننا تلك الأحداث الخالية كان جدي لا يخفي ذلك الاحساس بالنخوة والانتشاء حينما يقول : " لقد قتلت منهم ثلاثة يا اكبادي ،نعم ثلاثة دفعة واحدة " الحقيقة جدي لم يحمل السلاح ولم يكن من الجنود المنظمين الى الجيش الوطني لكنه وطني حد النخاع . قتل ثلاثتهم على حين غرة بمعول الحصاد  يوم أتوا الى "الدوار" بنية النيل من نساء العشيرة . كان يوما عظيما حمل فيه على الاعناق واقيمت على شرفه وليمة انتظرها الجميع لندرة موجبها.

كان جدي يقص ما مضى من أيامه ويزداد انتباهنا كلما تحدث عن إمرأة واطنب في وصفها فتجتهد عيناه في قذف ما تبقى فيها من الدمع الذي اوشك ان ينضب ...

"كانت إمرأة كألف, لم أكن أرى النساء في حضرتها ، خجولة حين يكون للخجل موجب و قوية كجبل القرية لا تتصدع حين تكون النوائب. كانت معطاء كالارض الذي ارتوت بالدماء الطاهرة . لم أحب من النساء غيرها ... لا تستغربوا يا أحفادي . لقد كنا نحب ونعشق اكثر مما تفعلون في ايامكم هذه . بل كان الحب كالحرب أو الوباء كثيرة ضحاياه. كانت ملامحها تختفي تحت "الملية" التي تغطي قوامها الممشوق وكانت خصلات  شعرها المتمردة تظهر من تحت غطاء رأسها كقطع من الليل كأنها تخبرك أنها تتوق للحرية والانعتاق كبلد كبله الاستعمار..."

كان يتحدث فلا ينقطع حديثه ولا احد منا يتجرأ على مقاطعته. الجميع يعلم كم كان يقدر جدتي ويحترمها ويعاملها كطفلة صغيرة لا يرفض لها طلبا حتى وافاها الاجل المحتوم وتركت فيه حزنا عميقا وجرحا غائرا لم يندمل . ولا احد يشهد ضده بسوء المعاملة أو اللامبالاة. و لا أحد  يشك منا ان المرأة التي يتحدث عنها كلما اجتمعنا حوله كانت جدتي . الى ان ذكر في معرض حديثه امراة لم نسمع اسمها من قبل ولم يكن اسم جدتنا . 

كان ذلك بعد ايام من عودته من المستشفى الذي خرج منه بمرض العصر "الزهايمر" . 

كل الأحداث تنسى إلا حب إمرأة كنت تراها وطنك وموطنك.







Share To: