الأديبة المصرية: نجلاء محجوب تكتب "قرط جدتي"
كانت ليلة شتاء معتمة شديدة البرودة، سيل من الأمطار أغرق الشوارع، تدثرت بمعطف جدتي وضممت ساقي إلي صدري لعلي أشعر بالدفء والبرد يغادر غرفتي، الصقيع يتصاعد، يجعل كرات الثلج الصغيرة ترتطم بالزجاج فتشعرني بالخوف وتزيد قلقي على والداي، اقتربت من المدفئة و الأخشاب المشتعلة تحترق، فهدأ البرد قَلِيلًا وَشَعَرَت بالدفء، في هذه الليلة الماطرة انتظرت عودة والداي الذين خرجا متجهين للمشفى، لشعور والدتي بألم شديد في ساقها بعدما انزلقت من أعلى الدرج، ولم يعودا رغم طول الانتظار و مرارة القلق الذي كاد يقتلني ببطيء في كل لحظة تمر دون عودتهما، وبعد ساعات عاد عمي الأصغر من الخارج و هو يرتجف و عيناه تفيض بالدموع، و أخبرنا أنهما فارقا الحياة أثر حادث مروري مروع، احتضنتني جدتي وأصبحت هي كل شيء بالنسبة لي، هي وعمي الأصغر، و كانت عائلتنا تقيم جَمِيعًا في نفس المنزل، منزل كبير مكون من طابقين يشبه القصور القديمة، اشتراه جدي قبل وفاته وجمع فيه أبناءه و أحفاده، تقيم جدتي بالدور الأول، و حجرتي بجوار حجرتها، تهتم بي كَثِيرًا، هي التي ربتني بعد وفاة والداي و أهتمت بي، و كلما مررت بجوارها كانت تنظر إلَيّ بحب يعانق روحي، ويشعرني بالطمأنية، و لأن جدتي كانت تخصني دون الجميع بالحب والأهتمام، كنت أري القسوة ملء العيون، باستثناء عمي الأصغر كان عطوف مثل جدتي، أما الآخرين لم يُقبل أحدهم وجنتي يومًا، أو يربت على كتفي، أو يسألني أَحدٌ يومًا ما بك، وكيف تحملت فقد والديك في يوم واحد، أنني أتذكر ذلك اليوم جيدًا، كان عندي ستة عشر عامًا، ذكريات حزينة، أبكي بصمت دون دموع كلما تذكرتها، تغيرت كثيرًا عن ذي قبل، كنت مرحة لا تفارقني البسمة، وصرت صامتة أهرب للقراءة وحياكة المعاطف، تعيدني ابتسامة جدتي كلما ابتعدت، تفجر الاحتواء من بين ذراعيها، عندما تعانقني، حضنها الدافء يرمم قلبي المكلوم، و يضمد جروحي، و أقبل على الحياة من جديد لأجلها، أعود شابة تغمرها الفرحة و وجهها مشرق بالابتسامة، كانت الأيام تمر ببطيء، تحملت جفاء الجميع و بغضهم لي الذي زاد عندما وعدتني جدتي أنها ستهبني في زفافي قرطها، وكان أجمل مقتنياتها، والجميع يتوق أن تأثرهم به، ومرت السنوات وأنهيت دراستي وتقدم للزواج مني أحد أساتذتي بالجامعة، و كان هناك اعتراض كبير عليه دون أسباب مقنعة، بينما جدتي رحبت به كَثِيرًا وتمت الخطبة، ولكن حدثت مشاكل كثيرة، و اعتراض من أبنة عمتي التي تستعد للزفاف لأن جدتي ستمنحني قرطها في زفافي، وقالت لجدتي أنها ستتزوج أَولًا، لذلك كانت هي أولى بمنحها القرط، فابتسمت جدتي وأسرت لها بكلمات في أذنها فانتهي كل شئ، لا أعرف ماذا قالت لها لتتغير معاملتها لي إلي كل هذا الود، كما تغيرت معاملة الجميع إلي المحبة بعدما اجتمعت جدتي مع العائلة دون حضوري، وكان بالمنزل بعض التصليحات، للاستعداد لحفل زفاف أبنة عمتي، إصلاحات لمقابض الحجرات، ومنهم حجرة جدتي، وكذلك لبعض المقاعد إذ أن جدتي تحتفظ بالأثاث العتيق ولا تفرط فيه بسهولة، و قامت الخادمة بتنظيف جميع الحجرات، بعدها تفاجأت جدتي باختفاء قرطها، ترى من سرق القرط؟ أنني ظننت أن أبنة عمتي هي من أخفته، بينما أعتقد البعض أن من كان يجري تصليحات المقابض والأثاث هو السارق، والبعض أتهم الخادمة، وبينما كانت الذنوب تثقلنا من الظن بهذا و ذاك، وجدنا أبنة عمي ذات الست سنوات ترتديه وتأتينا مبتسمة، أن بعض الظن أثم، إذا فقدت شئ لا تسيء الظن بأحد دون أن تتحرى، توفيت جدتي بعد عام من زفافي، ولدت مولدي الأول كانت بنت اسميتها رحمة على أسم جدتي، وتمنيت أن أحقق أمنية جدتي في إنشاء دار للمسنين، فقررت أن أبيع القرط وكانت قيمته كبيرة جِدًّا، وأنشأت دار للمسنين اسميته صل الرحم، رحم الله جدتي، دعوت لها ورجوت ربي أن يهبها هذا الثواب، كما وهبتني رعايتها وحبها سنوات عديدة، و هي من علمتني وزرعت داخلي حب تقديم الخير للأخرين.
تمت
Post A Comment: