الكاتب السوداني : أحمد سليمان أبكر يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الوشم الملعون"


الكاتب السوداني : أحمد سليمان أبكر يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الوشم الملعون"

 

***

الوشم الملعون

انتصف الليل،أفاقت من نومها مذعورةً،جعلت تتسمَّع لعلها تجد ذلك الصوت الذي أيقظها،فلم تسمع شيئًا،مدت يدها عن يمين ومدت يدها عن شمال لتتبيَّن أَتنكر من مضجعها شيئًا،فلم تنكر شيئًا،أدارت رأسها عن يمين وعن شمال مدت بصرها في الظلمة المتكاثفة من حولها كما أمدت سمعها في الصمت المنعقد في غرفتها فلم يقع بصرها على شيء، ولم  ينته سمعها إلى شيء، ولم تصل نفسها إلى شيء، بادرها القلق الذي ألم بها قبل أن تفتح جفنيها على ظلام الغرفة الدامس،انزلقت من تحت الغطاء إلى أرض الغرفة،مضت تتلمس الطريق على هدى عمود السرير، وقبل أن تصل الباب،شعرت بأن ثمة شيء ما انسلَّ إلى غرفتها في رفق كما تنسلُّ الأفاعي إلى جحورها،وقد بدأت تسمع أصواتًا تنبعث من أركان الغرفة نحيفة ضئيلة،يمثل بعضها همهمةً،وبعضها الآخر تصفيقًا وصفيرًا،ثم ما لبثت أن خافت أشد الخوف وهي تتمثل أشباحًا قد وقفت على باب الغرفة فسدّته سدًا وأخذت تأتي بحركات مختلفة أشبه بحركات الدراويش في حلقات الذكر.

حاولت أن تصرخ،ضاع صوتها في الظلام،أحست بشيءٍ يغمزها نظرت إلي موضع الغمز،فإذا بالوشم المرُسوم على ذراعها يتمدد شيئًا فشيئًا حتى غطى جسدها بالكامل،ومن ثم أخذ يتساقط في شكل قطرات من الدم ما أن تجمّعت حتى انتفضت فصارت كائنًا يحمل وجهًا غريب الخطوط يأتلف بين تقاطيعه الذكاء بالدهاء،والقباحة بالجمال والخباثة بالدماثة،عندها صرخت صرخة شقت أستار الليل ثم سقطت مغشيًا عليها،دخلت عليها والدتها لتجدها مستلقية على ظهرها وذارعيها مفتوحين في وسط الغرفة وعلى رأسها يقف الكائن الغريب،تسمرت أمام المشهد المروع مذهولة شاردة فاغرة فاها لا تصدق ما ترى وقد لفّها الصمت وألقى بظلاله عليها برهة حتى استجمعت قواها وصاحت بوالد الفتاة الذي هاله منظر ابنته الممدة على الأرض دون حراك ومنظر ذلك المخلوق العجيب،فهرع من فوره إلى الساحر القاطن في أطراف القرية.

جاء الساحر بجسمه الطويل النحيل ووجهه الضارب للسواد وعينيه المظلمتين النائمتين، فنظر إلى الكائن واجمًا،تردد قليلًا وهو لا يصدق ما ترى عيناه، أراد أن يتجاهل شره،جمع شتات نفسه،أخذ يتمتم ببعض التعاويذ، تلوى الكائن، طامن رأسه، وهو يحركه ذات اليمين وذات اليسار، في حركات  أخذت في الضيق رويدًا رويدًا حتى أصبح في حالة من الجمود،وقد غرق في شبه غيبوبة،اقترب منه الساحر،ضربه بسيفه النحاسي الذي كان بيده،قطع رأسه، لكن ما هي إلا طرفة عين حتى أطل للكائن رأس آخر،ثم ما زالت تطل رؤوس ذلك المخلوق العجيب حتى بلغت سبعًا؛عندها صاح صيحة فزع لها أهل القرية جميعًا ثم تصاعد في السماء كالدخان وتلاشى في الفضاء.ولما كان صباح اليوم الثاني لم يرد الناس موردًا من موارد الماء إلا وقد شابه دم قانئ أفسد لونه وطعمه وقد بدت القرية قفرة موحشة لا يعلم إلا الله ماذا تضم بين أقطارها من مخاوف وأهوالٍ.

لم يزل أهل القرية في حيرتهم يعمهون حتي غمر الليل البطاح واسودت السماء وبدأت عاصفة عنيفة تتلاعب بالأكواخ مثلما يتلاعب البحر الهائج بالسفن التي مزّقت الريح أشرعتها،وهم يتقلّبون على مراقدهم المحاطة بالأشباح المخيفة والأحلام المزعجة. انقضى الهزيع الثاني من الليل،سمعوا وقع أقدام علي حصباء الوداي قادمة نحوهم،هبوا من هجعتهم، اصطفوا يترقّبون الأفق البعيد،لاح  نور الصباح،كشفت نهاية العاصفة عن دخان أسود صعد إلى عنان السماء، ومشى على وجه الأرض، وبعد ذلك تكامل واجتمع ثم انتفض فصار ماردًا رأسه في السحاب ورجلاه في التراب برأس كالصخرة العاتية وعينان ترمي بالشرر،وصاح بصوت يذيب الجماد وهو يدور وينشر الفزع في دائرة آخذة في الاتساع،والناس يركضون،يتلاطمون، يتعثرون، فيسقطون، يصيحون، يستغيثون،وقد تشابكت أسنانهم وجفت حلوقهم وجعل الخوف شعور رؤوسهم كالرماد،وعيونهم كالحفر المظلمة،ثم هبت عليهم عاصفة هوجاء خرساء في أدمغتهم جرفت ميولهم عن الدعاء وجعلت نجاة نفوسهم تنتفض في مقابض الساحر الذي لكمه المارد لكمة فأرداه كالقتيل،عندها أفاقوا من غفلتهم وجثوا يصلون صلاةً طويلة استغرقت شعورهم ووجدانهم،وذهبت نفوسهم فيها حيث تذهب نفوس القانتين المتبتلين في مواقف خشوعهم وابتهالهم وكانت الشمس قد انحدرت إلى مغربها ولم يبق منها في حاشية الأفق إلا كما يبقى على صفحة البحر الهادئ من آثار السفينة الماخرة فلبثا على ذلك هُنيهة ثم استفاقوا على صوت الشيخ العائد من السفر لتوه،تهللت وجوههم،تحركت أنصافهم،ارتفعت أصواتهم بالترحيب انبثت في أجسادهم رعدة جعلتهم يقفون جميعًا كأنما حرّكهم لولب وقد انبث من بينهم من يدفع بهم يمنة ويسرة حتى يجد الشيخ  طريقه. 

تقدم الشيخ بقامته الفارعة، وجسده النحيل، وعينيه الهادئتين اللتان تظهران طبيعته العقلانية البعيدة عن الشعوذة والدجل،والنور يشع من غرة جبينه،وتقطر صفحته بهاءً وإيمانًا نحو المارد وهو يبسّمل ويحوّقل والمارد يتضاءل حتى عاد وشمًا في جسد الفتاة المطروح على الأرض.رش الشيخ الجسد بالماء،أخذ يتلو عليه آيات من الذكر الحكيم حتى بدأ يتحرك، ثم مالبث أن خرج منه شبح تكامل في هيئة مارد مخيف، يصرخ ويولول ويضرب برأسه في الحائط يمنة ويسرة،والشيخ مستمر في تلاوة الآيات حتى شبت النار في جسد المارد واحترق بالكامل. أما الفتاة فظلّت طريحة على الأرض دون حراك فجرّعها الشيخ رقية ماء؛ففاقت على إثرها وقد زال الوشم الملعون عن ذراعها بعد أن قاست من تباريحه التي أثَّرت في ملامحها تأثيرًا ظاهرًا وأَفقدها بعض ما جادت به عليها الطبيعة من آثار الحسن والجمال.

***

 




Share To: