الأديبة السورية / د. فادية كنهوش تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "عازف البيانو"


الأديبة السورية / د. فادية كنهوش تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "عازف البيانو"


رآه يتقدم نحوه مجتازا الدخان وبعض النيران التي بدأت تهمد...انتبه أنه قد فقد إحدى يديه...لم يكن يشعر بالألم ، سوى بعض الذهول...قال له القادم من اللامكان :

- اتبعني..

-ولكنني فقدت يدي اليسرى.. أنا عازف بيانو يا سيدي

-أبحث لنفسك عن واحدة...هناك الكثير من الأشلاء حولك..أنظر هنا..تلك يد قد تناسبك..

زحف  العازف خطوتين وتناول اليد القريبة منه و قال: ولكنها مختلفة اللون..

-لا يهم..ستفي بالغرض.

-للأسف إنها يد يمنى أيضا...كيف سأعزف بيمينين! أتكون هذه لعنة سحر الإبداع؟ لطالما كان المعجبون يطلقون حولي نوادرهم بأني أملك أكثر من يد يمنى أعزف بها جميعها بخفة واسحر ألبابهم...هل سأتمكن فعلا من العزف بيدين يمنيين؟ ؟لم أفعل ذلك من قبل صدقني!

-هل هذا فقط ما تتحسر عليه ؟!هل لديك أطفال؟ هل كان أحدهم معك هنا؟ 

- لا..لطالما سحرتني  موسيقى ضحكات أطفال وطني فكانو بالنسبة لي كل الأطفال الذين لم أنجبهم. فأنا لم أتزوج أبدا...حينما كنت أعزف كانت كل نساء المدينة تبتسم بغنج ودلال فكان من الصعب أن أختار زوجة منهن لي..حتى ذلك اليوم...جاءت بقامتها الممشوقة وجلست بين المتحلقين حول البيانو دون أن تتكلف ولو ابتسامة صغيرة...مع انها كانت تنظر الى عيني مباشرة كمن يغوص في بحر يعرف أعماقه...كانت جميلة..دون أية مساحيق تجميل، ولا تضع أية حلية حتى أصابعها خلت من الخواتم...بقيت مصغية..حالمة..حتى توقفت عن العزف فقامت راحلة دون ان تصفق واخذت كل أحلامي معها..وكانت الزوجة التي لم أتزوجها...

-هل تعرف أحدا من هؤلاء القتلى؟ 

-لا أعرف أسماءهم أبدا.. ولكنني أعرف وجوههم جيدا...هم فقراء من محبي الموسيقى..لقد اعتدت ان أعزف لهم في الشارع حيث يجتمعون حولي..أسعدهم لبعض الوقت..فهم لا يملكون ثمن تذكرة دور الأوبرا..ولا ثمن ربطات العنق..فكانوا يفضلون الشارع حيث يكونون على سجيتهم...يأتون بثياب العمل دون موعد...يبتسمون ويهللون لجمال الموسيقى...حتى البيانو خاصتي اتركه في هذه الساحة..في الشتاء ادثره بقطعة نايلون تحميه وتحميني من المطر وأعزف لهم...كان البعض يعتقد ان عليه ان يضع بعض النقود عندما انتهي..ولكنني قلت لهم بصوت عال كل مرة انهم ازا شعروا بالسعادة سأرى ذلك في وجوههم وسيسعدني ذلك ..وهكذا أكون قد أخذت أجرتي... 

وامتلأت عينا الموسيقي بالدموع...: هل يمكنك مساعدتي...ربما جمعت لكل منه وجهه وأشلاء جسده...لندفنهم بشكل لائق؟  فأنا وموسيقاي وآلتي التي مزقتهم شظاياها كنا سبب موتهم...كيف أكفر عن خطييئتي؟لقد هددوني بالقتل ولاحقوني من ساحة الى أخرى بحجة ان موسيقاي كفر ..من مدينة الى أخرى ولكنني لم أصدقهم...كيف يا سيدي تكون الأنغام كفرا...كنت أعتقد أننا بالفن، ليس فقط نعطي الناس فسحة من السعادة والراحة، بل اننا بها نحارب ونقهر قيود لا تزال تربط الفقراء بسجنها ...

- لا تحزن...دع الأشلاء تؤرق سكان هذا العالم التائه...للفقراء مكان اجمل لا يحتاج للأيدي والأرجل...فقط يحتاجون ارواحا نقية ...اتبعني..نحن بحاجة هناك  لعازف مثلك...

وارتفع القادم من اللامكان وشعر العازف انه يعلو فوق المكان ... فوق النيران والدخان...فوق اشلاء الفقراء..فوق اشلائه هو ...وظل يعلو حتى خرج من ساحة الجريمة ترافقه ضحكات أطفال شجية ونظرات امرأة جريئة و شكلت عيون الفقراء جوقة تابعته بكل ثقة الى حيث لا كفر ولا كفار..الى حيث لا فقر ولا ربطات عنق بعيدة المنال...

د. فادية كنهوش من سوريا




Share To: