الأديب السوداني / أحمد سليمان أبكر يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الرجل الذي هزم الطليان"


الأديب السوداني / أحمد سليمان أبكر يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الرجل الذي هزم الطليان"

 

***


مدينة صغيرة،يقطن سكانها أكواخًا مصنوعة من القصب والحطب ومسقوفة بالقش مع وجود القليل من مباني الطوب الأحمر كالمركز وسكن المفتش ومعاونيه،وعمال وموظفي السكة الحديد وبيت الناظر وبعض المتاجر ومنازل التجار.خرج من خان صغير بالقرب من السوق في ثياب غير مألوفة(بنطلون وقميص وبزة من الصوف وحذاء طلياني فاخر) جلس في المقهي،أخذت الأنظار تتجه نحوه وأصحابها مندهشون وهم يتهامسون،طلب كوبًا من الشاي رشف منه رشفة وما أن همّ بالثانية حتى جاءه شرطيان فقالا له:

هيّا يا رجل انهض وأتي معنا إلى القسم!

في داخل القسم نظر إليه الضابط وقال له: 

يا هذا ..من أنت ومن أين أتيت؟

ومن أين جئت بهذه الثياب؟

أبو سالف:أنا من هذه البلاد لكني غبت عنها سنين عددا حتى بدوت غريبًا كما ترى..لقد جئت من البلاد المجاورة.

الضابط: وما هذه الثياب؟

أبو سالف: وما شأن الثياب؟

الضابط:إني انصح لك، بأن تتخلص منها وتشتري لك ثيابًا جديدة بدلًا عنها حتى لا تجلب لنفسك المتاعب، وأعلم إن رآك الإنجليز بهذه الثياب فسوف لن يتركوك وشأنك..

خرج أبو سالف من القسم،استوقفه رجل طويل القامة أسمر اللون في زي بشاويش (رقيب أول) ثم قال له: 

يا أخي إني أجد فيك ملمحًا يشدّني بأن أسألك..

أبو سالف: تفضل بسؤالك..

البشاويش: أنت غريب كما تبدو ملامحك فهل عرفتني بنفسك؟

أبو سالف:فلان بن فلان..

تبسم البشاويش وقال:

أبشر هكذا ظننتك فأنا ابن عـمك ، هلاّ تفضلت بالذهاب معي إلى داري..

أكرم البشاويش ضيفه، ثم استمع إلى حكايته..

قال أبو سالف:

السفر والترحال رغبة تعيش في أعماقي، باستمرار، وكثيرًا ما حاولت إشباع هذه الرغبة، وأنا مقيم في القرية ذاتها،بها أرعي الأبقار وأفلح الأرض، وأشاهد ذات الوجوه من الرفاق والمعارف صباح مساء. 

وفي يوم من الأيام وبينما أنا أنظر إلى الشمس البــازعة من فوق رؤوس 

الأشجار،تساءلت في نفسي:لماذا لا أغادر هذه القرية حتى أتعرف على أناس آخرين في أماكن أخرى؟ فالسفر يساعد المرء باستمرار على اكتساب أصدقاء ومعارف جدد دون أن يكون مضطر إلى البقاء معهم يومًا بعد يوم. وما زالت تروادني فكرة السفر، حتى انتهي بي الأمر إلى شمال إفريقيا حيث التحقت بالجندية الطليانية هناك، فالطليان كانوا مستعمري وحكام تلك البلاد ولما غزت جيوشهم منطقة القرن الإفريقي ذهبت إلى هناك وعشت في معسكراتهم حول مدينة كرن الحصينة التي كانت تحتضن مقرهم الرئيسي،لقد طاب لي المقام وتزوجت من سكان تلك البلاد ،وتعلمت عدد من لغات أهلها.

ولما نشبت الحرب العالمية الثانية وأعلن المستعمرون الحرب على بعضهم البعض،حلفاء ومحور، دارت رحى الحرب في المنطقة، وفي الجولات الأولى كان النجاح حليف المحور حتى أن الطليان دخلوا إلى شرق السودان، لكن بعد حين تراجعوا إلى الداخل وأخذ يتعقبهم الحلفاء معركة بعد معركة حتى مشارف الجبال التي كانت تشكّل حصنًا منيعًا لمدينتنا من جهة الغرب ولا يوجد غير ممر واحد ينتهي عندها، عسّكر أولئك قرابة الشهرين لاختراق ذاك الحصن الجبلي المنيع، أما الطليان فقاموا بحفر نفق ضخم في الجبال ودخلوا فيه بكل مؤنهم ومعداتهم وتركونا نحن الجنود من غير الطليان في المعسكرات، تمكنت طلائع الحلفاء من الوصول إلينا،تقدم نحونا ميجورإنجليزي وهو يتمشى مشية الخيلاء وفمه ينفث دخان غليونه وبيده عصا خيزران طويلة، وهو رجلٌ طويل القامة، مهزول الجسم،غائر العينين؛ مقرون الحاجبين، أبيض اللون، مقطب الجبين، كأنما قد جثمت روحه الشريرة بين عينيه واستعدت للوثوب على كل من يدنو منها..وقف غير بعيد منا وهو ينظر إلينا بوجه صارم، ثم قال بلكنة عربية عسيرة:

 وين عدو؟

أطرقنا واجمين بلا جواب، ولما طال صمتنا أومأ إلى اثنين من الجند الذين كانوا برفقته،فركلا بقسوة اثنين منا حتى سال الدم منهما،عندها أشار إليّ الجميع وقالوا بصوت واحد هذا الرجل يعرف الكثير عن الطليان وقد قدم معهم من شمال القارة، هو الذي سيدلكم على مكان اختبائهم، فما كان مني بعد أن رأيت العذاب وقائدهم يتأبط شرًا،إلا أن رضخت لرغبتهم، وسرت بهم بين جبال عالية ملتفة متداخلة عبر ممر ضيق ملغم،كانوا يكنسون الألغام حتى أوصلتهم إلى باب النفق الذي كان متينًا فقذفوه بالمدافع ليخرج الطليان كالجراد المنتشر ،فأسروهم جميعًا، ثم بعث قائد الطليعة الإنجليزي إلى بقيت القوات بأن تتحرك إلى المدينة ، ولما كانت التاسعة صباحًا تجمعت قوات الحلفاء وطلبوا مني السير معهم إلى داخل المدينة لأدلهم على حقول الألغام لتمشيطها، سرنا تحت وابل من رصاص جيوب مقاومة الطليان هنا وهناك، وفي العاشرة صباحًا دخلنا المدينة، أحرق الإنجليز مصرفها مما جعل كبار الضباط والموظفين الطليان الموجودين بها يفضلون الانتحار على الأسر، حتى أن أحدهم كان يركب دراجته البخارية ويقذف بنفسه في النار الملتهبة، أما بقية أفراد الجيش وصغار الموظفين فرفعوا الرايات البيضاء مستسلمين بلا مقاومة، في وسط هذه الجلببة ذهبت إلى بيتي في أطراف المدينة ، سلّمت زوجتي سيف وحقيبة بها كمية من الذهب والثياب، وقلت لها إذا شبّ ولدي واسمه (علي) أعطيه هذا السيف وهذه الثياب وأصرفي على تربيته من هذا الذهب،أما أنا فعائد إلى أهلي، انتظرت حتى حل الظلام، حملت حقيبة صغيرة بها بعض الملابس وقليل من الزاد،ربطت خنجرًا صغيرًا في ذراعي،ودعت زوجتي الوداع الأخير وهي تنتحب بالبكاء،خرجت متسللًا غربًا،ولما أشرقت شمس اليوم التالي لا زلت اسمع دوي القنابل والانفجارات في المدينة، قلت في نفسي أنا في ساحة حرب فمن الخير لي أن اختبئ بالنهار وأسير في الليل،فذهبت إلى مغارة عميقة في جبل كثيف الأشجار ،اختبأت بها، كانت يا للهول سكن للثعابين والحشرات والخفافيش، لكن الحمد الله الذي حفظني حتى حلّ الظلام ،فخرجت منها مستأنفًا السير ،ولما انتصف الليل رأيت من على البعد نور قادم نحوي، قلت لابد أنها قوات إنجليزية لاحقة بالمعركة، اختبأت خلف صخرة كبيرة بجانب الطريق، اقترب النور وتبيّن لي أنها سيارة كبيرة من طراز (فورد)،لكن فجأة ظهر من الجانب الأخر للطريق أربعة من اللصوص....

،اعترضوا السيارة،وأنزلوا الأشخاص الثلاثة الذين كانوا على متنها،وأمروهم بأن يلقوا ما عندهم من نقود على الأرض ففعلوا، ثم أمروهم أن ينبطحوا على الأرض ، وقتلوهم جميعًا رميًا بالرصاص، ثم صعدوا إلى السيارة،وحملّوا جمالهم بما شاءوا وانطلقوا نحوي وهم يتغنون بأنشودة النصر،أما أنا فلقد التصقت بالصخرة وكأني جزء منها ،مروا بي حتى أني سمعت خشخشة جراب أحدهم فوق رأسي، انقطع صوتهم وتيقنت أنهم ساروا في الجهة التي أنا قادم منها نهضت ،اقتربت من تلك المجزرة البشعة تحوقلت من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، واصلت سيري ، ولما أسفر الصبح أويت إلى جبل واختبأت بين أشجاره وعند سدول الليل استأنفت السير كعادتي، وبعد وقت قصير رأيت نورًا خافتًا بين الأشجار تقدمت نحوه بحذر حتى دنوت منه قاب قوسين أو أدنى،اختبأت ألحظه، فإذا بثلاثة من البدو يعدون قهوتهم، فلمّا فرغوا من شربها ركبوا جمالهم وغادروا شمالًا خرجت من مخبئ إلى مكانهم لعلي أجد شيئًا من بقايا طعام يسد رمقي،لقد نفد زادي وتمزقت ثيابي من السير بين الأشجار والاختباء وراء الحجار، ولما أدركت المكان وبضوء النار الخافت لمحت حزام من الجلد وعندما رفعته وجدته منتفخًا ولما تفحصته وجدت به نقودًا تختلف عن النقود التي أعرفها ،فقلت في نفسي علّها نقود بلادي بينما أن كذلك ساق الله إليّ فريسة (أرنب) دفعها الجوع بأن تقتات على الحشرات التي كانت تحوم حول النار، فسكنت لها حتى ضربتها في رجلها وأمسكت بها وذبحتها، ثم سلختها وشويتها وأكلت حتى شبعت واحتسيت ما عندي من ماء وأطفأت النار حتى لا تدل عليّ عدوًا ، إنسانًا كان أم حيوان، ونمت لتعبي الشديد، وفي الصباح الباكر سرت قليلًا ثم مكثت ارتاح في أشجار كثيفة تطل على خور كبير به بركة ماء، ولما دخلتها اكتشفت أن بها أسماك، فأمسكت بعدد منها، ثم فركت أعوادًا من نبات العشر ، فأشعلت نارًا شويت فيها ذلك السمك، ثم أكلت وشربت وغصت في نوم عميق تحت ذلك الظل الظليل، حتى أفزعتني قعقعة صقر ضخم هبط على الأشجار وكانت الشمس قد دنت من المغيب، فاستأنفت السير حتى انتهيت إلى طريق كبير يبدو أنه طريق للسيارات، قلت في نفسي لابد أنه طريق يوصل إلى بلادي سرت فيه ، وبعد مضي وقت قليل ظهر نور من خلفي، اختبأت خلف شجرة كبيرة، ولما اقترب وتأكدت أنه نور لسيارة خرجت ألوح لراكبيها،فتوقفوا ونزل منها ثلاثة أشخاص وقد تقدموا نحو قليلًا وقال لي أحدهم:

مكانك لا تتحرك..من أنت ومن أين جئت؟

فلمّا قصصت  عليهم حكايتي قالوا لي:

أبشر نحن أبناء وطنك، هيّا اركب فوق الشحنة..

ركبت وسارت السيارة،ولما تحسست الشحنة عرفت أنها عجوة فأخذت ألتهم منها من فرط جوعي حتى شبعت،لاحت خيوط الفجر وقد دخلنا بلدة بها جبال شامخات من جهة الشرق وعرفت فيما بعد أنها كسلا، نزل بي أصحاب اللوري في مقهى من مقاهي المدينة وأكرموني غاية الكرم،ثم سـألوني عن وجهتي،فقلت لهم أنا لا أعرف شيئًا عن شرق هذه البلاد فأنا من غربها، فهل يعرفون شيئًا عن القضارف؟ وكنت أعرف عنها من قبل من بعض أبناء عمومتي الذين زاروا الشرق كثيرًا وقد رجّحت أن أجد فيها من أعرفه، فردوا بالنفي،لكنهم جاءوا بي إلى رجل خبير بمناطق الشرق  فدلني على  موقف السيارات المتجهة إلى القضارف فشكرته وأصحاب اللوري،ثم كان وصولي إلى هنا مساء أمس.

***





Share To: