الكاتب السوداني / محمد عبد المجيد جمال يكتب :بجروح لا تعرف الإندمال
تراجيديا
مشهد أول :
قرص الشمس يداخله رهق الترحال ، يتهاوى متهالكاً عند أريكته الغربية ، تأفل الأنواء في خفوت تدريجي ..
يفتضح عري الأفق ..
فيصبغ تقاطيعه إحمرار الشفق ، يتحرج الأفق من سوءته ..
يلحظه المساء من مكان قصي ،
وفي تسارع عظيم يسدل جفنيه ليدثر الأفق سربال السكون ..
الرياح المشعبة ببرد شباط تعوي كذئب سبغ ، السابلة يتناثرون أشتاتاً ،
الكل يلوذ بمأواه ، الشوكلا الساخنة وفناجين القهوة تنتظرهم ..
فتي (الورنيش) يسري دخائله التوجس ، يذرع البسيطة في تحركات كنتورية مبهمة يحملق في الفراغ كما لو طفل تنبأ بنوبات الصرع ..
خسر مرفأه منذ يومين وكذا تجرد من مدفأته (خيش السكر ) بعد أن مزقه صاحب العمارة متوعداً إياه بالويل والثبور إن عاود إفتراش بلاطها كما دأب أن يفعله أثناء فترات التشييد ..
بالفعل يواري المساء سوءة الأفق ، وكذا تحاكيه الطبيعة ناحية موجوداتها .. لكن ياتري من يداري سوءات مجتمعنا الدميم .. !!
#مشهد_ثاني :
يتكور الرضيع في خدر أمه المسجاة ، تتوالي وتيرة شهيقه في تعاجل مستمر .. ذرات الغبار تنسل إلي رئيته ..
فتزاحم الأكسجين في مساحات الإنتشار ..
يكابد الرضيع متشبثاً بالبقاء .. يشهق ويشهق يفشل في إقتناص قسطه الوفير من الهواء ..
مشتقات الكربون تضاعف ذاتها في تسارع جنوني ..
تتضاءل المسافة بين الهدبين ، تتقلص إلي حد اللامسافة ، يستعيض الإزرقاق لون الرضيع القرمزي ..
يحكم إغلاق قبضته ، يرتعش رعشته الأخيرة ..
الصوت الهادر آخر ما تنامي إلي قوقعته الداخلية ، أصوات (المولوتوف) ، وفوهات المدافع المرتجفة ..
الحرب المأفونة تمارس عبثيتها ..
المدينة تستحيل عمرانها إلي كومة من الأنقاص ..
أشجار اللالوب تنتبذ أوراقها ، تراها ثكلى تبث طقوس الحداد ..
رحي الوغي تدور لتطحن .. الدكتاتور ينفث في غليونه يملي علي سدنته قطع المزيد من الأوداج ، لا مناص اليوم للأبرياء سوى الهلاك ..
#مشهد_أخير :
ليلته الأخيرة في كنف الوطن ، يحدج قبة السماء بنظرات ساهمة ، يرقب حركة النجوم كمنجم ..
يدخن لفافته بشراهة ، الأولى ، الثانية ، الثالثة ، يتعاظم عدد اللفافات فيكف عن التعداد ..
معبأ هو بالرهاب كفأر مذعور ، الإحتمالات تمور بين أضالعه في تصاعد مخيف ..
عقد الأفكار ينفرط في ردهة رأسه .. تتدافق الأفكار تترى ..
آمال وثابة تومض في رحاب تطلعاته ، ثمة حيوات كريمة سيفنيها خلف إنحدارة المحيط هناك .. ثمة إستعادة لأدميته في بلاد تصون الإنسانية وتقدرها ..
يوشك الصبح أن يمزق برقع الظلام ..
يتسلل خفية إلي مبتغاه ..
يلقي نظرة الوداع الأخيرة ..
تنهد بقوة أخر شهقة تنسمها من أثير الوطن ..
هذا الوطن اللافظ لأبنائه كما لو كانوا أطفال خطيئة ..
تكدس القارب بالمسافرين ، الماخرين عباب المجهول والحالمين بالجميل الموارب خلف إلتحام المحيط بالرُحب ..
فراسخ عديدة طويت مذ أزوف الرحيل ..
بغتة دون إنذار مسبق قطّب البحر بين صدغيه وعلت تقاسيمه تكوّن التجاعيد ..
تلاطمت كفوف الأمواج براح بعضها في فوضوية متعاظمة ..
تأرجح القارب ومعه تأرجحت أحلامهم الوامضة ..
لوهلة أحس بوخز المياه المتجلدة يستشريه ، خالط أوصاله خدر بارد ..
طفق يحرك أطرافه في حركة دائرية ، نضبت طاقته في أوج توقه لمفعولها ..
فجأة إنطفأت الأضواء ، وتزمل البؤبؤان إنطباق الأجفان ..
تسامت روحه عند ربها ..
وهاهو ذا الجسد يتناجز عليه حوتان عملاقان ..
.
.
#رامي_الحدق
Post A Comment: