الأديبة المصرية / أ. فاتن فاروق عبد المنعم تكتب مقالًا تحت عنوان "العلم و الدين" الجزء 2



العلم والدين

(2)

الإسلام دين العلم:

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴿١١٤﴾ طه

الدين جاء بالوحي المباشر من الله لأنبيائه، أما البحث العلمي ليس إلا اكتشاف الموجودات التي خلقها الله في كونه بالأساس دون وحي أو أنبياء، فيكفي معرفة سببية أو علة وجود شيء ما صغيرا كان أم كبيرا ليكون دلالة جازمة على وجود الله الذي خلق هذا الناموس الذي نحيا فيه بنظام متقن محكم لا خلل فيه ولا اختلال.

(وقل رب زدني علما) هي حث وأمر إلهي على ديمومة البحث العلمي، ليصبح قرين السعي في الحياة الدنيا ليتحقق مراد الله فينا بخلافته في عمارة الأرض والدعوة إليه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

هيرمان المشلول (1013- 1054):

هو ابن أحد النبلاء الألمان الذي أصيب بجرح في النخاع الشوكي وهو طفل وكان لا يستطيع حتى الاستدارة في مرقده دون عون، ولديه مشقة في الكلام للتفاهم، أحضر للدير بجنوب ألمانيا في كرسي العجز ليعيش بالدير عمره الأربعين، وهذا المعوق كان له السبق في عرض الأسطرلاب العربي لأوروبا فعرض لهم أرباع الدوائر، وأجهزة تعيين المواقع، والساعات الشمسية المنقولة ذات الشكل الاسطوانية لاستعمالات المسافرين.

فتتساءل زيغريد هونكة (المفتونة بالحضارة الإسلامية) سؤال في مضمونة الإجابة وتقول:

هل كان مصدرها العائدون من الجامعات العربية إلى أوطانهم، والذين نزلوا في ريشناو، وخلفوا وراءهم المعدات المثيرة للانتباه، وفيضا من العبارات والمصطلحات التي كان يهوى الراحلون بعيدا تزيين أحاديثهم بها؟

هيرمان المشلول عكف على تأليف كتب تعليمية حول "لوح الحساب، والحساب التطبيقي، وحول الأسطرلاب، فالمؤلف يكتظ بالكلمات العربية" وتتساءل هونكة هل كان في حيازته مخطوطات عربية؟ بالطبع هذه المستشرقة هوجمت بضراوة في أوروبا لكنهم في الوقت نفسه لم يستطعوا أن يقدحوا في علمها، وانظروا إلى المفارقة نحن الآن نعلم أبنائنا لغاتهم منذ مرحلة الحضانة ويجيدها ويفتخر بمصطلحاتها الشباب، هل هذا يجيب على السؤال الملح لماذا يقتل سيل لا ينفض من علماء المسلمين التجريبيين سواء داخل بلادنا أوخارجها، بينما يحصل أحمد زويل على جائزة نوبل، هل مانح الجوائز هو نفسه مانح القتل؟

الإسلام وحده منفردا هو الدافع لأبناء الصحراء "الأميين الذين لم يتصلوا بأسباب الحضارة ولا يملكون مقوماتها" للبحث والتقصي في موجودات الكون مستخدمين في ذلك جهود السابقين من اليونان والهنود ليضيفوا عليها ويطوروها وفي ذلك تقول زيغريد هونكة:

"إن التراث اليوناني الهندي، قدم أحيانا، الأسس الضرورية لتطور الحياة العربية، وهو ذو معنى مفيد لا يمكن تقديره للشعب الذي لم ينطلق من الصجراء إلا في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، وأسس امبراطورية وأخذ على عاتقه بذلك حملا ثقيلا، هنا وفي وقت قصير نسبيا، مذهل آتت البذار اليونانية والهندية غلالا فائضة، بعدما أجدبت الحضارة اليونانية الرائعة منذ زمن بعيد، فإلى أي شيء يدين هذا الغنى في الازدهار والنمو الذي شهده العالم الإسلامي في غضون قرن إلى قرنين من الزمان، هل أحدث الرومان أو الفرس، الذين كانت نفس المعرفة تحت تصرفهم، ما يمكن مقارنته بها؟ هل عرفت أو فكرت بيزنطة مجرد تفكير، كيف تستفيد من التراث الذي ملكت مفاتيحه اللغوية؟ ليس ثمة شعب آخر، وجد من القدرة ما يحمله على مواصلة البناء بشكل خلاق، ولقد بدا ولعدة قرون وكأن عالم الفكر القديم قد أفل إلى غير رجعة، واختفى إلى الأبد، وكما اختفت من قبله تعاليم الهندوس والهنود الحمر، ولقرون طويلة، اقتصر عمل أولئك الذين كانت التركة في أيديهم، على إيلائها عناية متواضعة، فلم يعمدوا وهم في حمأة البغض الديني المقدس إلى تدميرها أو إحراقها وكما كانت عليه الحال دائما، في عمليات الإبادة المنتظمة المتكررة، على مرأى ومسمع من قيصر بيزنطة وموافقته، وبتحريض من المتعصبين المسيحيين في عاصمة الدولة الهلينية في الأسكندرية عام 642، قبل أن يدخلها العرب بوقت طويل، والذين أفلح المفترون بإلصاق خرافة تدمير المكتبة بهم على الدوام"

إنه الإسلام الذي يفتئت عليه الآن كل ذي هوى، يقبض من خلف الأبواب وأسفل الموائد، ولكن هيهات فهم كالنملة التي تتحدى الفيل.

المحرض الرئيس للبحث العلمي:

نعود إلى زيغريد هونكة والتي تعزي المحرض الرئيس للصعود السريع لنجم المسلمين كانت العبادات التي يؤديها المسلم فتقول:

"ممارسة الشعائر الدينية المقدسة، تطلب أداء الصلوات الخمس، وصوم رمضان والمواسم الدينية عن طريق إعادة قياس منازل الشمس والقمر كل يوم، وليس الاكتفاء ببناء أدوات القياس الفلكية فقط، بل وبتطوير أرقام وطرق حسابية صالحة للاستعمال، ومن واجب كل مؤذن أو مسافر أن يكون قادرا على استعمال الأجهزة المعقدة، وتحديد اتجاه القبلة حيثما كان موقعه في هذا العالم، وفي الصحراء الشاسعة التي تقطعها قوافلهم، كان عليهم معرفة الاتجاه الذي يقصدون بمساعدة قبة السماء، وكان تجنب العدوى والأوبئة خاصة في المدن التي تعد بالملايين، يتوقف على بناء أعداد كافية من المستشفيات الكبيرة، وتخريج الأطباء وامتحان كفاءاتهم، وإخضاع المواد الغذائية للرقابة وتحضير الأدوية، ومثل هذا العرض لا يشكل إلا عرضا مقتضبا للاحتياجات العربية التي لا تنطوي على مطالب مثالية جوفاء، وإنما على مواظبة حقيقية للحياة اليومية العربية، كما يدعو القرآن، الكتاب الديني والدستور العالمي المؤمنين إليه، وكانت العبادة هي التطبيق السلوكي للمعرفة منذ الوهلة الأولى، وظل العامل النابض الدائم للازدهار السريع لهذه الحضارة في كافة الميادين، لأنه يلائم سجية الفكر العربي وكان كذلك محرك العلوم العربية"

زيغريد هونكة لم تهن في ابتغاء قومها لإبراز الحقيقة التي طمسوها فلماذا نهن نحن في ابتغاء القوم؟ في ذلك الوقت التي يشتعل فيه إعلام الرايات الحمر بعباد الشيطان (ولو كانوا مسوخ معممة) ألا تدفعنا الغيرة الدينية أن نرقى مرقى المستشرقة غير المسلمة؟

لم تمر فترة من تاريخ المسلمين أحط ولا أسوأ مما نعيش فيه الآن، ولكنه الغسق الذي يسبق خيوط الفجر وهذا أيضا ما لا تخطئه العين، ولكنها ليست أي عين، بل العين التي ترى بقلب سليم لأن هذا فقط هو المحك، ولنا في التاريخ العبر، صلاح الدين الأيوبي والذي شرفت بالكتابة عنه من قبل، لم يستيقظ صباحا وقرر أن يحرر المسجد الأقصى ولكن سبقه كثر من جيوب المجاهدين في دولة السلاجقة الذين عبدوا له الطريق دون أن ينعموا ببشائر نصر مرتقب، ولكنهم كانوا يخلصون لله فقط ويتركون إبراز النتائج لخالقها ومسببها، ما يعني أن تلك الكثرة الكاثرة التي تفيض في إعلام الرايات الحمر والتابعين لهم من عوام المسلمين الذين سلموا لهم عقولهم يبولون فيها آمنين مطمئنين، يكفيهم فرادى من المؤمنين الخلص المخلصين، كل واحد منهم بأمة، لا يهنوا في ابتغائهم وردهم مدحورين.

كثيرا ما نسمع ممن يريدون أن ينحى الإسلام جانبا من مجمل حياة المسلمين، فيقال الدين لا علاقة له بالعلم! كما أن الدين لا علاقة له بالفن! وإن قلنا ثوابت الإسلام فيقال، أي إسلام الصومالي أم التركي أم المصري، لذا آثرت االعودة لنقطة البداية وما قالته زيغريد هونكة عن الإسلام خصيصا، لنرى ما حققه أجدادنا عندما لم يلتفتوا لمن يميعون الدين.

قول فصل لمن يريدون تصوير الإسلام على أنه أصبح مفصل على مقاس كل دولة لا لشيء إلا لتنحيته وتفريغ حياة المسلمين منه لنظل في التيه نرتع فلا يرسو لنا قارب أبدا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم

"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي"

نعم هذا هو القول الفصل، ثوابت هذا الدين القرآن والسنة، الذي بهما ومنهما انطلق المسلمون الأول ليبهروا المنصفين ويحرقوا أكباد الحاقدين.

وللحديث بقية إن شاء الله

 

Share To: