‏

الكاتب السعودي / أ.محمد الحميدي يكتب : العراق ما بين الولاء والانتماء


الكاتب السعودي / أ.محمد الحميدي يكتب : العراق ما بين الولاء والانتماء



   ثمة تداخل بين مصطلحي "الوطن" و"الدولة"، وكثيراً ما يستخدمان لذات الغرض، حتى باتا كأنهما يدلان على شيء واحدٍ، بينما الواقع مغاير قليلاً؛ إذ الوطن يستدعي قيمة "الانتماء"، بينما الدولة تستدعي قيمة "الولاء".

   الوطن يتم الانتماء إليه، والبحث عنه، بل ومحاولة إيجاده حين يُفقد، وهذا المعنى تردد بكثرة في كتابات الشعراء والأدباء والمفكرين؛ باعتباره الملجأ الأخير، والحصن الحامي، وعلى النقيض منها كلمة الدولة؛ إذ هي الغائب الأكبر عن تلك الكتابات، فلا يُرى لها وجود؛ إلا في بعض الأدبيات السياسية.

   قيمة الانتماء من القيم العليا المترافقة مع الشعور بالهُوية، فالوطن يُشكِّل هوية الإنسان، فالعراقي ينتمي إلى أرض العراق، ولو ولد في أوروبا، والفلسطيني ينتمي إلى فلسطين ولو عاش في أمريكا، وبهذا يغدو الوطن في مكانة متماثلة مع العائلة واللغة، فالوطن أب، والعائلة أم، واللغة وجود.

   الشعور بالهُوية؛ أعلى ما يحصلُ عليه المرء من انتمائه للوطن، حتى وإن لم يقدِّم له الوطنُ شيئاً، فيكفي أن يقترن اسمه باسم وطنه، ليتحقق لديه إشباع الشعور بالانتماء، الذي هو أكثر من كافٍ، ليصبح المبادر بتقديم التضحيات، وبذل النفس والمال، وكل غال ونفيس في سبيله، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل واضح في الحروب، وبشكل غير واضح في الإخلاص له في الوظيفة، والخشية عليه من الأعداء، والاهتمام بمصالحه، ومصالح أبنائه، الذين يَنظر تجاههم كإخوةٍ وأخوات.

   "الأخوُّة"؛ تمثِّل أعلى ما يصلُ إليه الشعور بالهُوية، والانتماء إلى الوطن من التزام، إذ أنت تعيشُ مع عائلتك الكبيرة، التي تمتد على مجمل مساحة وطنك المرسوم في ذهنك، وهو ما يصدق بالمقابل على عائلتك والمتحدثين بلغتك، فالجميع يعتريهم ذات الهاجس، ويشعرون بذات الشعور؛ لهذا يكثر التضامن وقت الأزمات، والوقوف بجوار بعض في المصائب، كما يزداد التلاحم، وتقديم التهاني والمساعدة في الأفراح، وأوقات السعادة والهناء.

   قيمة الانتماء، وما يصحبُها من الشعور بالهُوية، وانتهاء إلى الأُخوُّة؛ تمثل قمة المعنى الوطني، فلا يكونُ المرء وطنيًّا؛ إلا إذا حاز عليها، وهي دلالة تختلف عن الدلالات التي ترشح عن مصطلح الدولة؛ الذي يعلي من قيمة الولاء، ويغض النظر عن الهوية، ولا يعير الأخوة أيَّ التزام.

   قيمة الولاء تترافق مع تأسيس الدول، وتستمر معها حتى سقوطها؛ حيث الدولةُ تنمو وتكبر، ثم تهرم وتموت، بينما الوطن لا يتغير؛ إذ يحافظ على صورته الذهنيَّة، فالولاء قيمة مجلوبة من خارج، وليست أصلية لدى المرء؛ لهذا يسهل تغيير الولاءات، ويصعب تغيير الانتماءات.

   الدولة تفرضُ قِيمها على الأشخاص؛ الذين تتحكم في مصيرهم، وأعلى قِيمها وأهمها قيمة الولاء، التي لا تدوم الدول إلا بها، وتنهار بزوالها؛ إذ هي تعاقدٌ ضِمنيٌّ بين حاكم ومحكوم، على الالتزام بمعايير محددة، الدولة تعمل على توفيرها؛ لتحصل منه على ولائه.

   ولاءُ الأشخاص ليس مجانيًّا، فقيمته أن تلتزم الدولةُ بتوفير ما تم التعاقد عليه بشكل ضمني بين الحاكم والمحكوم؛ من عدل، وتعليم، وخدمة، وصحة، وعمل، وغيرها، وحين تقصِّر في الوفاء بإحداها؛ سرعان ما ترتفع الأصوات المطالبة بإعادة الأمور إلى ما ينبغي أن تكون عليه.

   اختفاءُ المجانيِّة في الولاء؛ يعني اختفاء المجانيَّة في العطاء والبذل والتضحية، وهو ما يقود إلى تفكيك مبدأ الأخوة، أو العائلة الكبيرة، ليتركَّز الاهتمام على الذات، أمَّا الدولة، فربما أتت وربما غابت عن سلم الأولويات؛ إذ بقدر ما تطبِّق من معايير، يمنحها رعاياها ولاءهم، وبقدر ما تمتنع عن التطبيق، يمنعون عنها ولاءهم، ويتذمرون من قوانينها وتصرفاتها.

   الوطنُ انتماء، وشعور بالهُوية، وتجسيدٌ لمبدأ الأُخوُّة، بينما الدولةُ ولاء، وتعاقدٌ ضمنيٌّ بين حاكم ومحكوم، يختفي فيه مبدأ الأُخوُّة، وتحل الفرديَّة والأنانيَّة، محلَّ التضامن الجمعي، والاهتمامات المشتركة.


21 سبتمبر 2022م



Share To: