الكاتبة السودانية / هند فيصل تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "مُفتَرقٌ شَاق"
كنتُ في مكتبي أرتشفُ القهوة؛ عسى أن تزيل النعاس الذي تسلَّل إلى عيناي، رغم أني قد نمتُ النهار كاملًا، فالمناوبة الليلية من نصيبي اليوم، معي ممرضتان وحارس المستشفى وسائق الإسعاف كي يقودها إن احتجنا لها.
اقتربت نهاية مناوبتي فالساعة تشير إلى الرابعة فجرًا، اتصل بي الدكتور خالد، يخبرني بتأهُّبه للمجيء، سيوصلني للبيت وسيداوم في مناوبته الصباحية، الأمر مُريح عندما ترتبط بزميل المهنة، يكون على درايةٍ وعلمٍ بكل الاحتمالات، ويكون أكثر تقبلًا للأمر، إذ أنه جربه، وخصيصًا عندما يشاركك المشفى وعيادة نفس المرضى.
فتحتُ رواية اقرأها، وحينما كنتُ غارقة في الأحداث، عَلا صوت سيارة الإسعاف متجهة إلى خارج المشفى، جائتني الممرضة تقول: هناك حادث ليس ببعيدٍ من هنا وتحرك الإسعاف بصوبهم حالًا، انتفضتُ من مكتبي واضعةً الفِنجان والكتاب، جهّزنا كامل المُعدّات، وبتنا مستعدين، وصلت سيارة الإسعاف، كان رجلًا ومعه امرأة وطفلة صغيرة بعمر الثلاث سنوات، الرجل كان بحالة جيدة إلى حدٍ ما كما ذكرت الممرضة لأني لم أراه، وكذلك المرأة، أما الطفلة فكانت فاقدة للوعي مع بعض الكدمات والجروح، أدخلنا الطفلة وأجرينا لها بعض الفحوصات، لديها كسر في اليد، جبرنا اليد ونظفنا الجروح، ونقلناها للغرفة، أتت والدتها قلقة وسألتني عن حالتها فقلت: هي بخير لا تقلقي، فقط كسرٌ طفيفٌ في اليد لن يأخذ الكثير من الوقت حتى يلتئم، وبعض الكدمات سيزول أثرها قريبًا، اطمئنّت وطلبتُ منها الجلوس كي أُنظِّف لها جروحها، بعد هنيهةٍ من الصمت قالت: كُنا مسرعين كي نلحق بزفاف أخت زوجي، فنحن نقيم خارج البلد، وقرر أن يجعلها مفاجأةً لها ولعائلته، هو يحبها كثيرًا، وأراد أن يفاجئها كي يجعلها سعيدة، لم نعلم أن القدر قد خطط لشيءٍ آخر، ابتسمتُ لها وقلت: هي تدابير الله، لا علم لنا بها، ومن المؤكد أن له حكمته فيما حدث، الحمدلله أنكم لم تُصابوا بأذًى بالغ، عسى أن يكون في هذا الحادث خير جهلتموه.
ابتسمت حتى بانت وجنتاها الجميلتان، وقالت: ونِعمَ بالله، ثم مالبِثَت أن عمَّ وجهها العبوس، فقلت: لا أظن أن هذا الأمر فقط هو الذي يشغل بالك، فقالت بعد صمتٍ قصير: منذ أن وضعتُ ابنتي هذه، وسافرنا إلى الخارج، لم نأتي مرةً أخرى، أما الآن فقد أتينا لظرف، ولم أكن أريد العودة صراحة، فقلت: لما؟
قالت: لدى زوجي ذكريات في الحيِّ الذي تقطن فيه أسرته، ذكريات جميلة بالنسبة له، ومؤلمة بالنسبة لي، ثم سكتت وكنتُ قد انتهيتُ من تطهير الجروح، فقلت: ها قد انتهينا، إن كان الأمر يُزعجك فلا داعي أن تحكيه، فقالت: حبيبته القديمة تسكن بجوارهم، كانا مخطوبين، وكانا عاشقان مُتيَّمان، يُضرب المثل بِحُبِّهما الصادق العُذري، ولكن وقبل الزواج بمُدة، آثرت مخطوبتهُ عملها كطبيبةٍ في المستشفى على الزواج به، بعد أن شارطها بترك العمل أو تركهِ هو، فاختارت حياتها بدونه، كنتُ أقف في الزاوية أراقب بصمت، كنتُ مُتيَّمةً به أيضًا، ولكن بطريقتي الخاصة، كان ابن خالتي، له كبرياءٌ يأبى أن يهزّه له أي مخلوقٍ على هذا الكوكب، وإن كانت من أرادها زوجةً له حدَّ الجنون، خطبني بعدما أراد أن يغيظها ويؤلمها بفِراقه، تزوجنا، كنتُ سعيدة جدًا، وهو أيضًا، كما كنتُ أعتقد، إلى أن جاء يوم أخبرتهُ بحملي، دُهِشَ وتفاجأ، قال بأنهُ سعيد، ولكن ملامحهُ لم تكن تؤكد هذا، ربما لأنه قد وجد الأمر أصبح جِديًّا، ليلتها استيقظتُ من نومي، فوجدتهُ خارًا على سجادتهِ يبكي في موضعٍ لا يُشبهه أبدًا، مستسلمًا هائِمًا يدعو الله فيه أن ينزعها من قلبه، وأن لايظلمني معه، كانت المرة الأولى التي أراه فيها يبكي، ذكرني وذكرها في دعوةٍ واحدة، يُخرجها هي، ويُحبَّني أنا، رغم قسوة الأمر، إلا أنني انتشيتُ وفرحِتُ كثيرًا، ربما لأنه دعا بي، دعا الله أن يُحِبَّني.
في اليوم التالي أخبرني بموضوع السفر، كي نبدأ حياةً جديدة بعيدة عن هنا، كان يدري بعلمي لمقصده، وافقتُ دون تردد، ومن حِينها، نعيشُ حياةً مُستقرة، تعمُّها الألفة والاحترام المتبادل، لم أصل لتلك النقطة التي وصلتها هي في قلبه، يُناديني عِدة مرات باسمها، يحتفظُ بهداياها، يُحِب الأغاني التي كانت تعجبها، يحفظُ تاريخ ميلادها، وجُلَّ ذكرياتهما معًا، تفاصيلها موجودة معنا، لكنه أصبح لي في النهاية، لي فقط، ولن أجعل بعودتنا هذه للأمر أن يتغير.
تعجّبتُ لما كانت تُضمرهُ في مكنونها من حديث، وتيقّنتُ بأنها أرادت شخصًا كي تُخبره ويسمعها، اكتفيتُ بالابتسام، وضعتُ يداي على يدها وأمسكتها دون أن أتكلم، أخبرتها ضمنيًا بصعوبة ماتعيشه، ولكن الله معها، ولن يتركها، بادلتني الابتسامة، ومسحت بكفِّها دمعةً في طريقها للأسفل، أخبرتُها بإمكانية خروجهم، حملتُ الطفلة واتجهت بها إلى كراسي الانتظار في الخارج، بعد أن ذهبت أمها إلى دورة المياه، ونحن ننتظر أبيها كي يعود من الحسابات، تبادلتُ معها الحديث إلى أن سمعتُ شخصًا ينادي باسمي، رفعتُ رأسي ووجدتُ الفتاة قد ردَّت بدلًا مني، اسمها كاسمي، كيف لم أنتبه لهذا!!
نهضت من الكرسي واتجهت لأبيها معانقة، توقف الزمن وتوقف كل شيء آخر، لم أكن أرى أمامي غير عينيه، تلك العينان التي بكيت المُرَّ بسبب صاحبها، لبِثنا مدةً نمحلق في بعضنا، فعلها القدر!
أتى به للمكان الذي طالما كرِه ذهابي إليه، وعالجتُ ابنته بيدي، كل هذا الألم الذي سردتهُ زوجتهُ والذي يغُصُّ قلبها كان بسببي، حكت لي ظانةً أني غريبة، لأصبح بطلة القصة ومحورها الأساسي.
اللعنة!
استفقنا من شرودنا لأجده قد اقترب ومدّ يده مصافحًا وعيناه ستخترق عينَيَّ من حِدة النظر: دكتورة ريم محمد، قد لعبت الصدفة دورها جيدًا.
تحوّل نظري إلى زوجته التي كانت واقفة بقربه، والصدمة تجتاح ملامحها، لا أدري من متى هي هنا، منذ أن عرفت اسمي، أم منذ أن اكتشفت بثَّ همومها لأكثر شخصٍ كرهته في حياتها!
وجدتُ يدًا قد مُدَّت بدلًا من يدي، وصافحته قائلًا: دكتورة ريم لا تصافح
إنه خالد!
اللعنة مجددًا!!
هذه المرة، تبدَّلت ملامحهُ للحدِّ المُخيف، في أيامنا كان غيورًا جدًا، غيورًا حد الاختناق، ولكنني كنتُ مستمتعة بهذا الأمر، أما الآن فهو غريبٌ قلبًا وقالبًا، تبادلا النظرات الحادَّة، توجَّهت عيناه بصوبي، حملت كمًا من الحسرة، الخذلان، الشوق، والكثير من الندم، عندما عاقبني بزواجه ورحيله.
حسّ خالد بشيءٍ من الريبة اتجاه نظرات ذلك الرجل، فابتدر قائلًا: أنا الدكتور خالد عبدالله والدكتورة ريم هي مخطوبتي، أخبروني أنكم قد تعرضتم لحادث، حمدًا لله على سلامتكم، ردَّت زوجته: سلّمك الله، نظرتُ لها، فوجدتُ على محياها أمارات الراحة قد ظهرت، لارتباطي بشخصٍ آخر وبأن خطري عليهم قد قلَّ إلى حدٍ ما، قلتُ لهم بعد استوعابي لما كان يحدث موجهةً كلامي لخالد: المرضى ينتظرونك يا دكتور خالد، نستأذنكم، عجّل الله شفاءكم، وذهبنا عنهم.
...
يحدث أن يكون للنهايات أثرٌ باقٍ حتى خواتِم العمر، فاجعلوا دائمًا لنهاياتكم في حياة الأشخاص ذكرى جميلة، وإن كان الفِراق من غير تراضٍ، نتاج جبرٍ أو كبرياء أحد أطرافه ورفض التنازل.
على الأقل، عندما يلعب القدر لعبته، لن يكون هناك ما ستندمون عليه إذ حلَّ اللقاء، فمادام للعمر بقيٍّة تظلُّ المواجهةُ حتميّةً لا محالة.
Post A Comment: