الأديب المصري / إبراهيم الديب يكتب : "مولد وصاحبه غائب"
لم أعد أتذكر جيداً جملة الانطباعات الأولى تدوم التي كنت: أسمعها تتردد في الماضي كثيراً من خلال اعلانات التليفزيون عن أي منتج كانت تقصده هذه الجملة التي تعبر عني أنا شخصياً بقوة وعمق شديد عندما ذهبت لمولد" سيدي السيد أبو المعاطي" بدمياط من أجل أن استطلع هذا العالم بنفسي الذي يحكي عنه كل قام بغزو لياليه ثم يعود نتحلق حوله نحن الصغار يسيطر علينا الشغف، كنت استرق السمع وأمني النفس بمغامرة مثل بطلها الذي يقص علينا من أخبار ها الأن، عالم المولد الذي دمج العقلي بالأسطوري والخرافة بالمقدس والديني في نسيج واحد مضفر بداخل الذاكرة الشعبية .
أصبحت في الثانية عشر كنت أعتقد أنني في تلك السن الصغيرة أني رجل ناضج وكنت أغضب ممن يناديني و أفهم من نداءه أنني :ما زلت صبيا و أقل من رجل... عقدت العزم وانطلقت للمولد بعد أن: تسلحت بقروشي ويقظتي و تسبقها أحلام الصبا والعمر الجميل البريء دون دليل أو خبرة سابقة ،و لاكني رأيت المولد عكس ما توقعته أو تخيلته تماماً فقد وجدته: ساهرا فاجرا، ساحرا مبهجا مليئا بالنشالين اللذين يسرقون كما يقول الناس الكحل من العين علاوة على الشحاذين والصعاليك وفتوات آخر الليل ولاعبي الثلاث ورقات ، ولكن لا شيء يهم كنت أعيش حينها تحت فكرة: فاز باللذة كل مغامر, ومات بالحسرة كل جبان، لابد أن أخوض التجربة بكاملها فكان هناك في النفس شغف حب الاستطلاع ،وفي العمر متسع : لمغامرات لا حد لها، فكان في العقل فكرة و بداخل الجيب نقود وفي النفس أحلام بعرض الدنيا لا أعرف أين ذهب كل ذلك..
كانت أول نمرة شاهدتها لشخص يركب موتوسيكل جاوا تشيكي يدور به في حجرة دائرية مصنوعة من الخشب مرتفعة حوالى عشرة أمتار وكأنه برميل كبير كان يدور بالموتوسيكل بأقصى سرعة من: أسفل لأعلى والعكس صحيح باحترافية شديدة وبساطة وكأنه يسير على طريق أسفلتي ممهد لم أكن أصدق ما أشاهده أول الأمر كل رأيته في حياتي ،كان شاب كامل الرجولة في متوسط العمر ممشوق القوام، يتمتع بثقة بالنفس تقترب من الغرور ، والإعجاب بالنفس حد التيه، نظرته تخبرك بذلك ينتزع آهات المعجبين فكان يحظى بإعجاب منقطع النظير وتلويح من الأيدي وإشارات تعبر عن إرسال القبلات له ما نزال رحلة هذا الشاب داخل البرميل من أسفل لأعلى والعكس صحيح فكان ما يقوم به من ألعاب يقربه من الموت في كل لحظة أكثر من الحياة... أتذكر جملة الانطباعات الأولى تدوم ولكن لا أتذكر ما المنتج الذي تعلن قد يكون عطر أو حتي صابون.
نسيت أن أذكر بعض مما قرأته عن صاحب المولد سيدي السيد أبو المعاطي فقد قرأت في بعض الكتب التي لم أعد أذكر إسمها أنه لم يكن شيخ أو ولي ولكنه كان رجل وطني وكان و يحارب ضد الصليبيين عندما يهاجمون مصر من خلال نهر النيل: فرع دمياط فتقادم ذلك العهد على الناس فكانوا يحتفلون به تخليد لذكرى بطولته هو وزميله جمال الدين شيحة التي لا تبعد المدرسة التي تحمل اسمه تخليد لذكراه الا مئات الأمتار، فنسي الناس لماذا كانت تحتفل به الأجيال السابقة، وظنوه شيخ طريقة عابد زاهد فكان مسجد و مقام وصندوق نذور ثم كان مرضى وفقراء وأصحاب حاجة يضعون قروشهم القليلة بداخل الصندوق يتوسلون بها عند صاحبه من أجل الشفاء وقضاء الحاجة بعد تحول في نظر العامة صاحب مقام وشفاعة ترتجى، ثم كان مولد، ومنشدين في حب الرسول تشدوا،وحمص، وحب العزيز وحلوى، ومطربين وراقصين ونشالين وصيع ومتسولين و ناس لا تحصى، وأعداد من البشر تمثل شلال هادر من جنون الحياة، بلا حصر يذهب منها الكثير ويأتي غيرها وأفكار شتى لانهائية بعدد نفوس أصحابها ، ثم تحول لمولد وصاحبة غائب..
Post A Comment: