الكاتب الصحافي المغربي / عثمان ناجي يكتب خاطرة تحت عنوان "مَقْهَى.."
مَرَرْت أمَام الْمَقْهَى الْقَدِيم . رُبَّمَا ظَنَنْت أنَّنِي مَرَرْت أمَامَهُ .
فِي الْحَقِيقَةِ ، لَمْ يَعُدْ مَوْجُودًا ، اِخْتَفَى كُلِّيًّا .
أَصْبَحَ الْمَكَانُ أَجْمَل بِكَثِير ، وَاجِهَة زجاجية تَلْمَعُ تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ كَأَنَّهَا قِطْعَه الْمَاسٍ ثَمِينٍ . فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ، تتدفق أَناقَة رصينة مَعَ الْقَادِمِين والمغادرين مِن الْمَبْنَى الْجَدِيد .
بعضهم يَحْمِلُ مَا يُشْبِهُ جِرَابًا وَرَقِيًا مُزَيَّنٌ بِإِشْكَال وَصُوَر غَايَةٌ فِي الْإِتْقَانِ ، بِدَاخِلِه قِطَعُ حَلْوَى غَالِيَةٌ ، هَكَذَا خمنت .
فَجْأَة تَذَكَّرْت النادل الْقَدِيم فِي الْمَقْهَى الْقَدِيم .
كَيْفَ كَانَ يَتَثَاقَل عَمْدًا حِين يُنَادِيه زَبُون بملامح غَرِيبَةٍ عَنْ الحَي . كَيْفَ كَانَ يُسْرِعُ فِي طَلَبِ مَشْرُوب معتاديه القدامى دُونَ أَنْ يَتَفَوَّهَ أَي مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ . يَكْفِي أَنْ يُومئ بِرَأْسِه مِثْل حَكِيم صِينِي ، ثُمَّ يَأْتِيهِ الشاي أَو القَهْوَة .
كَانَت أَعْرَاف الْمَقْهَى هَكَذَا .
الْكَرَاسِي فِي الْمَقْهَى الْقَدِيم هِيَ أَيْضًا كَانَتْ قَدِيمَةً و نَوْعًا مَا غَيرُ مُرِيحَة ، الْكُؤُوس رَخِيصَة وطرازها لَمْ يَتَغَيَّرْ مُنْذُ الأزَلِ .
فِي الْمَقْهَى الْقَدِيم ، يُمْكِنُ أَنْ تُدَخَّن ، أَن تَغْضَب ، أَن تَلْعَن النَّاسَ وَالدُّنْيَا ، أَن تُغْنِي مَتَى صَادَفَت لَحْنًا تعشقه عَلَى المِذْياع الْعَتِيق .
دَاخِلَ الْمَبْنَى الْجَدِيد الْبَرَّاق ، لَا مَكَانَ لِكُلِّ هَذَا.الْكَرَاسِيّ جِدُّ وَثِيرَة ،والْأَشْيَاء جَدِيدَة .
جَدِيدَة جداً ، حَدّ الْقَرَف .
نادلات شابات لَا يميزن بَيْن زَبُون وَغَيْرِه .
تُمَدُّ إحْدَاهُنّ الْكِتَاب الْمُزَرْكَش نَحْوَك مَا إنْ تريح جَسَدَك المتعب خَلْف الطَّاوِلَة الزُّجاجِيَّة .
تَنْظُرُ إلَيْكَ بِبَعْضِ الِاسْتِعْلَاء .
اقْصِد النادلة طَبْعًا ، لَا الطَّاوِلَة .
عَلَيْكَ أَنْ تقَرِّرَ فِي مشروبك بَيْن اخْتِيَارَاتٍ مشبوهة ومُبهَمَةٍ .
فِي الْمَكَانِ الْجَدِيد ، لَن تُغَنِّي .
لَن تَغْضَب .
لَن تَلْعَن .
لَن تُنَادِي عَلَى أَحَدِ معارفك كَي يشاركك لُعْبَة اسْتِنْزاف آخَر قَطْرَة فِي إبْرِيق الشَّاي .
اِخْتَفَى الْمَقْهَى الْقَدِيم وأختفت مَعَه الْعَادَات الْقَدِيمَة وَحَتَّى الْوُجُوه الْقَدِيمَة .
تَغَيَّر الشَّارِع ، تَغَيَّر الْمَقْهَى وَالْعَالَم .
"إن أعادُوا لَك الْأَمَاكِن الْقَدِيمَة
فَمَن يُعيد لَك الرِّفَاق ؟ "
مَحمُود يَسْأَل .
مُجَرَّد هَلْوَسَة أُخْرَى بِمُناسَبَةِ افْتِتَاح مَقْهَى آخَر بِجَانِب الْمَقْهَى الْجَدِيد.
أَمَّا الرِّفَاق ، فَتِلْكَ قِصَّةً أُخْرَى . .
عثمان ناجي
كاتب صحفي -المغرب
Post A Comment: