الكاتبة المصرية / آيات عبد المنعم تكتب مقالًا تحت عنوان "الاستنساخ المعنوي.."
الاستنساخ المعنوي..
في الآونة الأخيرة قرأتُ مقالاً قيّماً حول موضوع الاستنساخ، كتبهُ أستاذنا الكبير "الدكتور حسين علي" أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس، الذي تشرفتُ بالتتلمذ على يديه الكريمتين في الدراسات العليا، ومازلتُ أتتلمذ على ضياء مقالاته العلميّة وندواته وإرشاداته.
حتماً موضوع الاستنساخ قد تناوله الكثيرون، وهناك العديد من الكتب والمقالات العلميّة عنه خاصةً في الفلسفة، تحديدًا ميدان أخلاقيات العلم؛ وهناك كتاب هام يحمل هذا الاسم، مُترجم في سلسلة عالم المعرفة، قامت بمراجعته "الدكتورة يمنى طريف الخولي" أستاذتنا الجليلة، وهناك كتاب آخر بعنوان "الاستنساخ البشري، تأليف : هنري آتلان وآخرون"، ومن يريد مزيداً من الإطلاع أكثر يكفي أن يبحث عن الموضوع على الشبكة العنكبوتيّة، لذا لن أتناول موضوع الاستنساخ بشكلهِ العلمي الصرف؛ بل سأقفز إلى معنى آخر من الاستنساخ نعيشه ونمارسهُ في حياتنا اليوميّة خارج المختبرات الطبيّة.
فإذا كان الاستنساخ يُنتج نسخًا حيوانيّة متكرِّرة من حيوان معيَّن عن طريق نقل نواة خليّة جسديّة من هذا الحيوان إلى بُويضة مفرَّغة من نواتها، ثم وضعها في الأنثى لتكوين جنين يتطابق في صفاته وجنسه مع الحيوان المأخوذ منه نواة الخليّة الجسديّة، كما قام الغربُ باستنساخ "النعجة دوللي".
فإنَّ الجنس البشري يقوم بفعل الاستنساخ المعنوي منذ فجر التاريخ، في رحلة تكوين ذاته وبناء الحضارة، وهو يلعب دورين ناسخ ومنسوخ، يقدم نسخة لتصوراته وأفكاره للآخر وللطبيعة، وكذلك يتأثر بمن حوله، فتغدو هناك علاقة جدليّة تفاعليّة بينه وبين الأشخاص والأشياء، لكن ليس كما هي على صعيد الاستنساخ العلمي المادي الذي تكون فيه النسخ متطابقة مع وجود طفرات؛ في الاستنساخ المعنوي هناك عامل الحريّة الإنسانيَّة الذي يمنح للإنسان فكرة الانعتاق من أسر الاستنساخ المعنوي، وبقدر ارتفاع الوعي عند الإنسان يكون التحرر من قيد النسخ الكربونية المتوارثة بفعل عدة مظاهر وتجليات، سأحاول عرض مصاديق لها بإيجاز.
من صور الاستنساخ المعنوي:
1- التكاثر الجنسي: إنَّ فعل الإنجاب والأهم دور تربية الأطفال، يمثل أقوى مظاهر الاستنساخ المعنوي، وإذا ما كانت هذه التربية خالية من العلم والمحبّة، سنقدم أجنّة مشوّهة للمجتمع، وعليه يجب أن يُهذب الآباء والأمهات أنفسهم بشكل مستمر، وأن يتخذوا رحلة بناء أسرهم عملية بناء ذاتي لشخوصهم، كي يقدموا للمجتمع ذُرِّيَّات صالحة للحبِّ والحياة تتسم بالإتزان النفسي وتساعد في نهضة البلدان.
2- التعليم: إنَّ مهنة التعليم لا تقوم على تلقين المعلومات فحسب؛ بل الدراسات التربويّة تُشير إلىٰ خطورة "المنهج الخفي" في عملية التدريس، فالمعلم يُقدم ذاته بكلِّ جوانبها، وعليه يتأثر الطلاب بتصرفاته وسلوكياته الأخلاقية، ويفوق تأثيرهُ الأهل في كثير من الأحيان، خاصةً في مرحلة الطفولة المُبكرة، بل حتى في مرحلة المراهقة والشباب الجامعي، وليس من المطلوب أن يقوم المعلم بخلق نسخ وعقول تُشبهه، بالعكس يتوجب عليه أن يجعلهم يتجاوزون فكرهُ ويقدم للمجتمع، نماذج معرفية وأخلاقية قابلة لتتطور المستمر.
3- علماء الدين: مما لا شك فيه أنّ العامل الديني هام للغاية في بناء التكوين الرُّوحي والأخلاقي للإنسان، وعليه فإنَّ الكثير من النماذج الإيجابيّة والسلبيّة في المجتمعات الإنسانيّة ما هي إلا حصاد المنابر الدينية باختلاف مشاربها، لذا نحن بحاجة دائمة إلى عملية نقد وفحص مستمر للتراث الديني المتواتر الذي يمثل أعلى مظاهر الاستنساخ المعنوي البشري، كي لا نُنجب عقول منغلقة تقع تحت رحمة الشيخ أو الحخام أو القس، لا رحمة ربِّ العالمين.
4- محاكاة الشعوب الضعيفة للقويّة: للأسف الشديد حين يتم تهميش دور المصلحين وإغفال دور المعلمين وعلماء الدين المخلصين الواعيين، يُهيمن الاستنساخ المعنوي على عقول الجماهير المضطهدة بفعل الاستبداد السياسي والجهل والفقر، وبدورها لا تستطيع التمييز بين ما هو سلبي أو إيجابي عند الآخر المُهيمن، والدول القوية التي يخلو ميزان قيمها من الأخلاق الحميدة، ويسطو عليها مبدأ البراجماتية والمنفعة الماديّة، تستغل هذا الضعف الداخلي للأمم، وتمارس فعل الاستنساخ المعنوي، لكن في أحط صوره، فتعمل على سرقة ثروات الشعوب واستغلال عقولهم المُهاجرة، في حين أنَّها تُحافظ على مبدأ العدالة في أراضيها، وفي المقلب الآخر تُكرّس أنظمة ظالمة تزيد من الهوّة الحضارية بينها وبين الشعوب التابعة المُنسحقة لضمان التبعية والاستنساخ المعنوي السلبي، وقد أفرد ابن خلدون مؤسس علم العمران البشري حديث قيّم بهذا الشأن.
5- التكنولوجيا والإعلام: رغم أهمية هذا العامل، لكنِّي لم أضعه في البداية، لأن تأثيره يعتمد على مدى الوعي الأسري والقائمين على الشأن التربوي في المدارس والجامعات والمؤسسات الدينية، مما لا شك فيه أنَّ الإعلام الآن تغيرت ملامحه تماماً، وغدى كل إنسان بمثابة مؤسسة إعلاميّة متنقلة، ولعل مواقع التواصل الاجتماعي
من خلال القوى الناعمة تمارس أخطر وأشرس استنساخ معنوي علينا يوميّاً دونما أن نشعر، إنَّنا أسرى هواتفنا بما حوت، قلة من يحملونها بعقولهم وبصيرتهم، كُثر من يحملونها بأياديهم ويتابعونها ببصائرهم، عيونهم لا تنقد أو تفحص ما ترىٰ، خالية تماماً من التفكير المنطقي العلمي.
إنَّ "المؤثرين في عالم السوشيال ميديا"، خاصةً الشريحة الأوسع منهم تحديدا ما يُعرف بـ "الفاشينيستا" هم بمثابة "شيوخ جدد" يقدمون لمتابعيهم، سُنَّة بديلة من خلال روتين حياتهم اليومي، برأيي دورهم لا يقل خطورة عن المعلم وعالم الدين، إنَّهم يستنسخون إنسان مادي إستهلاكي يأكل ويلبس ولا يفكر، لقد صنعوا نسخة أقلُ من النعجة "دوللي" للأسف الشديد!، حتماً هناك في هذا الفضاء الإلكتروني نماذج إنسانيّة مُشرفة تُقدم خدمات معرفيّة في شتى جوانب الحياة، وعليها يُعقد الأمل في تقويم مسار الأجيال القادمة.
6- الكون والكائنات الحيّة: إنَّ الإنسان يتفاعل مع المكان بكلِّ أبعاده الكونيّة والتاريخيّة والجغرافيّة والروحيّة، بكائناته الحيّة وجماداته الناطقة؛ لا تستعجب أيها القارئ العزيز، بأنَّ كلَّ شيء من حولك يستنسخك ويخلقُ منك صورة جديدة، قميصك يتحدث عنك لونهُ والمكتوب عليه، نوع قهوتك سريعة أم عربيّة أو تركية، غرفتك، شارعك، وطنك، وحضارة بلادك؛ أنت النسخة الجديدة المُعدّلة من موروث ثقافي يضرب جذوره في أعماق التاريخ.
وعلينا أن نُشير هنا إلى أهمية رفع الوعي الأخلاقي البيئي عند الإنسان كونه يُسهم في إصلاح أو فساد الكون، ويتدخل بشكل مباشر في عملية تكاثر الكائنات الحيّة أو انقراضها، إنَّ دمار توزان البيئة والعطب الذي أصاب البر والبحر والمخلوقات فيهما؛ ما هو إلاّ حصيلة الطغيان البشري.
ختاماً.. إنَّ الاستنساخ المعنوي بهذا الفهم، سنجد منهُ الإيجابي والسلبي، وكلنا نقوم بهذا الفعل باختلاف أدوار حياتنا، وحتى الإنسان الخامل يهدي نسخةً منهُ، وذبذبات للمحيطين من حوله بالاحباط والسلبيّة، عكس الإنسان الفعال الإيجابي الذي يملأ الحياة نشوةً وفرحًا ونصراً.
إنَّ أيّ إنسان يُمارس فعل الاستنساخ المعنوي، يُقدم للآخر شيئاً منه ويأخذُ شيئاً عنه، فاحرص أن يكون جميلاً كي يتكامل البناء الحضاري الإنساني.
إنَّنا بحاجة ماسَّة للوعي العلمي المنطقي والأخلاقي، والاستفادة من الثورة العلمية في عالم التكنولوجيا التي تختزل علينا جهد كبير في وصول وإيصال المعلومة، وجُلُّ ما نحتاج إليه هو أن نمنح للعقل والضمير الأخلاقي قيادة السفينة كي تنجو الأرض بمن فيها، ونقدم نسخة كونيّة جديدة تليق بالإنسان الواعي الحُرّ.
Post A Comment: