الأديب الجزائري / عبدالرحمان صديقي يكتب: أوهما تأبطتْ...ام سرابا؟


الأديب الجزائري / عبدالرحمان صديقي يكتب: أوهما تأبطتْ...ام سرابا؟


..........       ..........      ............

-لا أخفيكِ فجيعتي فيك!

-انا؟مسكينة أنت.أجابتها باستخفاف ورمت بشعرها للخلف في حركة لا إرادية،كأنها أرادت أن توحي بتذمرها ،أو ندمها للقائها بصديقة طفولتها.واستدارت لتشيح عنها بوجهها الغاضب نحو البحر .

كلما إلتقتها حليمة-صديقتها-أعادت عليها ذات الإنشغال- دائما-لم تعرف إن كانت تتعمد ذلك بخبث ،أم حبا فيها.كانتا تلتقيان لوحدهما كما جرت العادة،لكن هذه المرة إختلفت عما سبقها ،فحليمة إصطحبت معها غيث .

إنزوى غير بعيد عنهما ،غير مكترث لهما ،يرمي ببقايا الخبز للحمام،كما أنه حاول إطعام كلب صغير، لكن صاحبه رفض بكل وقاحة ،فتنمر الكليب بوقاحة أكثر. 

كان رجل مسن يجلس قبالتهما ويظهر الإستغراب عليه ،والإستنكار لتصرف الرجل ،و ربما تساءل في داخله عن  وقاحة الكلب أهي متأصلة فيه، أو إنتقلت اليه من صاحبه الوقح،أو لعله العكس؟

-صار رجلا .حاولت نجيبة أن تلطف من كآبة الجلسة،فقد شعرت أنها تمادت في تجاهلها لحليمة،لكن كان الأمر سيان في نظر حليمة،لقد تعودت على نزقها.

-ثلاث سنوات عمره الآن.أتذكر يوم ولادته ،كأنه أمس.

ثلاث سنوات؟!استغربت،أو تصنعت الاستغراب،نجيبة.

-لم أبالغ حين كلمتك عن فجيعتي،أعني فجيعتك أنت ،في عمرك.

كانت كلماتها كصب زيت على نار هادئة لتثور،لكن نجيبة لم يظهر أنها تأثرت،ولم تنفجر،أو تعلق.لزمت صمتا غريبا.من عادتها أنها لا تستسلم و تفلسف كل شيء،وتجد كلاما طويلا لكل كلمة قصيرة،كيف لا وهي من هي .

-لقد عرفتِ رجالا كثر،آسفة لم أقصد إساءة،إنما عنيت 

-لا عليك-قاطعتها نجيبة-أعي ما تقصدين.

-ولما؟ولا واحد؟!

هنا شغلت الأسطوانة الطويلة، والمعتادة،أسطوانة مغامراتها-كما تدعي هي-ومعارفها ،ليس فقط في بلدها ،بل وقد تعدتها لأشخاص في دول أخرى,كانت تحكي بكل اندفاع و استرسال طويل.أما حليمة لم تكن تصغي لها ،لأنها سمعت الاسطوانة لحد الثمالة!وكانت تراقب صاحب الكلب ،وهو يسحب كلبه بقوة،خاصة وإن الكلب كان يحاول أن يتوارى عن الناس خلف عمود كهرباء، ليقضي حاجته،لكن الرجل- ربما- فهم أن الكلب يتحداه ،فسحبه بقوة أكثر، فتناثرت بعض فضلاته خلفه.

 حينها-ربما- عرف الرجل المسن من أيهما انتقلت الوقاحة للآخر!

نهرتها نجيبة لما تفطنت لانشغالها عنها ،و أيقنت أنها لم تكن تصغي لها.

-أأنت معي أم مع غيري؟

-المعذرة.كلي لك.تفضلي أكملي.حقا أنا يهمني أمرك.ألم تتمكني من الظفر  بواحد ممن عرفت، العمر يجري.ولا مفر للمرأة من رجل تبني معه بيتا.وأسرة.....والتفت صوب غيث .لتضيف ...و أولاد.

-ليس الحال بهذه السطحية.فدراساتي العليا و نيل الشهادات العالية،ومؤلفاتي،والملتقيات،والسفر المثير والكثير....وراحت تسترسل....

أما نجيبة فلاحظت ذبابة تحوم فوق ما خلفه الكلب ،مستمتعة به ،تأخذ منه  من كل جوانبه،كانت الذبابة قد وجدت ضالتها ولم تبتعد عنها! حتى تجمع حولها ذباب كثير،فانزوت بعيدا تتربص بلا إهتمام و دون حماسة.

-إنه الوقت .أعتذر منك يجب أن انصرف الآن،إنه وقت إنطلاق القطار.سنلتقي قريبا.

سحبت إبنها برفق و توارت عن نظر صديقتها.

بقيت مسمرة في مكانها.مرت دقائق طويلة قبل أن تتذكر بأن القطار الذي انطلق قبل حين ،هو آخر قطار لنهار اليوم حيث وجهتها.

نهضت ،تأبطت أوراقها ،و قصاصاتها، وسارت في الشارع الطويل ،على أمل أن تجد من يوصلها إلى وجهتها من حيث أتت ، وجهتها التي ربما تكون قد نسيت..عنوانها .




Share To: