الكاتب الصحافي والقاص الجزائري / بشير عمري يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "التماثيل الأليفة"


الكاتب الصحافي والقاص الجزائري / بشير عمري يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "التماثيل الأليفة"



 

 

التماثيل الأليفة

 

أعترف أن مقترحها ذاك قد صدمني في الوهلة الأولى، لكني لم أشأ أن أفجعها بهاته الحقيقة ونحن في بداية الطريق الوردي، كما أسمته ورسمته بلون الكلام، فهي تصر على أن تعبر على علاقتنا الجديدة بالبلاغة لأنها فنانة تنحت على الخشب والصخر بدائع الصمت، فيتجلى صارخا صاخبا بضوء التعابير في الليل كما في النهار، أما أنا المسكين، فشأني شأن كل عربي، مهموم بالسياسة وقراءة الصحف وتكديسها بالبيت خشية تدنيس اللغة العربية بالمسح بها على زجاج السيارات المستوردة ومرايا خزائن الفلين بغرف النوم، أو حمل بصل الخضارين وأعشاب وبخور العطارين! ثم إنها ستقدم لي هدية بمناسبة عيد ميلادي، سيكون من عدم اللياقة وقلة اللباقة التدخل في خيار الهدية.

 لكنني كنت دوما حازرا بارعا، أتنبأ من أسئلة صاحبي الأولى خطوه القادم بلسانه أو يده، فمن أول حوار بيننا، كنت قد حرصت على أن لا أظهر لها على شاشة الحاسوب واكتفيت معها بالمحادثة الصوتية رغم إلحاحها، تحججت بكل ما استطعت من حجج، كضعف تدفق النت من صحراء الجزائر، ترهل حاسوبي وقدمه، عدم وجود خيارات جديدة فيه، كانت تصمت غير مقتنعة، وهكذا أفلت من نية سوزان في نحت تمثال لصورتي كي تهدينيه بمناسبة عيد ميلادي!

ثم ولمَ عساها أن تنحتني على الصخر أو الخشب؟ ما الذي فعلته أنا للبشرية كي استحق أن أُخلَّد على الصخر؟ لست سوى فتى عربيا حالما بالزمن، والتماثيل هي أحمال لأفعال وأحلام أبطال أصحابها، أنا لم أكن بطلا رياضيا تهتف له الحناجر في الملاعب ويذاع اسمه في نشرات الأخبار وتدفع له الأموال بسخاء ولا مغنيا ترقص النساء بعطورهن النفاثة في الحفلات والحانات والاعراس على صوته، فلما عساي أن يحمل شكلي الصخر أو الخشب أو...

آه هنا خطرت لي فكرة لما تذكرت ما روته لي سوزان وهي تحكي لي عن رغبتها في خوض تجربتها الأولى هذا العام بالنحت على الجليد بالمرتفع البارد بمنطقة بافاريا، فقلت تحت إصرارها بأن أظهر لها سواء صورة أو حركة على شاشة حاسبوها، قبل الموعد الذي سبق وحددته لها وأنا العربي المفتون بزمن الظهور ومهوس بحسابه وشبق الانتظار فيه، ماذا لو تجرأت وأوقحت متدخلا في شاكلة هديتها لي وطلبت منها ما دامت مصرة على أن تهديني تمثالا بشكلي، أن تنحتني على الجليد، هكذا حين ستزورني كما وعدتني الصائفة القادمة، سيذوب التمثال قبل أن يعبر الحدود الجوية ويمطر ماء على الجزائر، ضحكت من هذه الفكرة، لكني رأيت سوزان المتعلقة بي وبلحظة ظهوري متجهمة في خيالي، فقلت لقد أدركت بحدة ذكائها الألماني حيلتي العربية الساذجة وأصلها غير المنطقي..

احترت ولكني لم أسكت في حوار نفسي معها، فارتأيت أن أتغسل أمامها من كل سماجة أحستها من كلامي، فقبل كل شيء هي سوزان الألمانية الشقراء التي من حسنها يذوب الصخرة والخشب طوعا فيتجلى من تحت ضربها بالمطرقة على الإزميل تماثيل سارة للنظارين، فعزمت على أن أخدش شيئا من ذاكرتها القومية، وأثير مزية الجليد على الصخر والخشب، وأنه بلا لون عنصري أو هو بلون الماء فلا قيمة لبشرتي السمراء أو بشرتها الشقراء على الجليد لهذا أراه أحسن مادة للنحت على المواد الصلبة وحتى صلابته تظل تحت إرادتنا فإذا لم نجمده ذاب وصار ماء وهباء في الطبيعة.. رأيت في خيالي التجهم يتلاشى من وجهها ويشرق السرور، فقفزت معلنا عن نصر جديد للكلام العربي على الغربي على سرير شاب مليء بالأحلام الساخنة بغرفته بالصحار الجزائرية.

لكني عدت وتذكرت عشق سوزان للحيوانات وحين سألتني عن أيها أحب تحديدا لم أتردد في القول الهِر طبعا!

ضحكَتْ ملء ألفيه حتى رأيت لهاة حلقها متدلية في قعر ثغرها كحبة لوز ذهبية، ولم يفزعني طبعا ذلك الكهف المشرق بنور أسنانه الرخامية اللامعة، فنسيتُني أنا وهري في ذلك الثغر الوردي، قبل أن يعيدني إلى الواقع انقطاعها عن الضحك في نوبتها المرحة، كما يعيدني انقطاع الكهرباء المتكرر ساعة الحر في الصحراء الجزائرية إلى واقعه اللاهب:

- ما الداعي إلى كل هذه الموجة من الضحك؟

- سألتك عن الحيوان!

- نعم وأجبتك بالهر!

- أوالهر والكلب لا يزالان في عداد الحيوان عندكم؟

- ......

- طيب.. لا علينا، أنا أحب السحالي!

ارتج قلبي، هل ستهديني تمثل سحلية، إذا عليَّ الإسراع بأن اقترح عليها الضب، هكذا سيكون مثاليا لخطتي سأضعه مكان الغزلان المحشوة جلدها بالتبن التي اشتراها والدي من سوق الخميس!   

- لكنك لم تسألني لماذا؟

بلى عزيزتي، كنت سأسلك، فقط أنا عربي متأخر بعض الشيء عن السؤال، إيقاع العقل يعني فقط..

- لماذا؟

- لأنها حيوانات مُعلِّمة مثالية للحب شبقة له دوما!

شعرت بحرارة تكتسح جسدي، هل سيكون التمثال القادم منتصبا حبا؟ فأين علي أن أنصبه بالبيت، وغرفتي لا زالت مستباحة من أختي ووالدتي للمسح والتنظيف تحت زعيق أمي والحاحها علي بالضرورة الزواج، وأنا الذي لا يملك سوى أحلام معطلة..

أيلزمني أن أفكر من الآن في شراء قطعة قماش وأخيطها سترة لتمثال سحلية سوزان المنتصب بالحب؟ ومن هذا الخياط اللعين بالبلدة الذي سيبكي من فرط الضحك، كما ضحكت سوزان ويرعبني بلهاة حلقه المتدلية في جوه مغارته الخالية إلا من قليل الاسنان السفلى، مغارة المظلمة كظلمة أحياء الشوارع الشعبية للبلدة، إن أنا طلبت منه أن يخيط سروالا أو لباسا داخليا لضبي!  

غير أن تغيير سوزان الكلي والمفاجئ لمجرى الحديث، وإثارتها لمسألة أقداس الحروب بدول الجنوب، جعلني أكثر خيفة من ذي قبل في مسألة مشروع هديتها التمثالية لي، فلحظتها ارتجعت بالذاكرة لحواراتنا عما يعلق كثيرا على صحف الجزائر من صور ومذام ومدائح ومذابح مليونية عبر التاريخ!

لا حبيبتي لا توقظي الصخر بخيالك فيُغل الصدر في بلادي، لقد جفت صحارينا من نصف نفطنا ومجرى الدم لا تزال إبره وأباره تتقاذف في ربوعها الحارة وتحت شمسها الحارقة..

سوزان لم ولن تسمع آهاتي تلك، فما أن سمعت دقات جرس الساعة الحائطية بغرفتي كما اعتدنا كل يوم الافتراق عليه وهو يعلن عن منتصف الليل بتوقيت الجزائر، حتى أبرقت من حاسوبها إلى مسمعي مقطوعة بصوت صبياني Happy Birthday to You .. شعرت بغبطة غريبة، فأنا لست معتادا على الاحتفال بغير مواليد الأنبياء والأولياء، وطبعا كتمت ذلك في داخلي ولم أبح به لسوزان، لا ليس حياء أو خجلا، بل حتى لا تعود من بعدي وتسأل في النت عن انبيائي وأوليائي وتنحت أحدهم على الصخر أو الخشب فتلقي بي في قعر جهنم المدينة وأنا أستلم الطرد من موظف البريد..

بعدها أشارت إلي بأن أفتح علبة رسائلي لأستلم صورة هديتي!

اسرعت كالصبي إلى ذلك حتى من دون أن أدعها تنهي كلامها، كنت ومزهوا ومغزوا بشعور غريب، أي الصور تكون عساها قد أرسلتها إلي من قبل أن تأتني زائرة للصحراء الجزائرية هاته الصائفة بتمثالها لي، أي عضو من جسمها تكون قد التقطته بكاميرا هاتفها النقال وأهدتني إياه اليوم، هل شفتيها سيكونان مطبوعين بحمرتهما على بطاقة جميلة مورَّدة؟ إذا حصل فعلا ذلك سأعجل من موعد الظهور، وأظهر لها جسدي البرونزي العربي الصحراوي الذي يعبق بروائح النفط، فهي قالت لي أنها تحب ذلك اللون الفائح !

وكما يضيع من صاحب صندوق المجوهرات مفاتحه، ضاعت مني كلمة للمرور إلى علبة بريدي الاليكتروني من فرط القلق والشوق والشبق معا، راجعت كل الكلمات السابقة التي كنت أمر من خلالها إلى حسابي بدء من اسم وتاريخ مولد والدتي ثم تاريخ ميلاد ووفاة والدي مرورا باسم تلك العربية الوحيدة التي أحببتها عبر أمواج الصوت دون أن أراها، لكن بلا جدوى، قبل أن ينفتح بقدرة القادر تحت مسمى لم أعد أذكره فكانت صعقتي كبيرة!

- هل فُتح بريدك؟

- نعم

- وأخيرا.. وإذا هل أعجبك التمثال في الصورة؟

- طبعا!

- هل تفضل أن ارسله لك عبر طرد بريدي أم تنظر حتى أتي به معي في الصائفة المقبلة؟

أعلي أن أخبرها بأن التماثيل حرام ببيوتنا ولو كانت لآبائنا وأجدادنا؟ سأكون سمجا وغير مهذب بالمرة إن فعلت..

- اعتقدت من كلامك عن الحيوانات أنه سيكون...

قاطعتني:

- لم يعجبك إذن، لعل التمثال لم يماثل صورة الزعيم الذي رويت لي بطولاته ووصفت لي ابتسامته الخالدة؟

- بلى أعجبني، فقط..

قاطعتني مرة أخرى ساخرة:

- لا تخف هو تمثال صغير، والتماثيل لا تنموا ولا تتحرك، فلن يطول ويخرق سقوف العمارة حيث تسكن كن مطمئنا..

- أعرف.. لكن مثل هاته التماثيل في بلاد العرب لا تعيش في البيوت!

- وين تحديدا؟

- في ساحات المدن الكبرى ووسط الشوارع الرئيسة!

- وداخل البيوت؟

نظرت إلى ركني البيت حيث تمثال الغزالتين الصغيرتين المحشوتين بالتبن، ذواتي عيني المها الواسعتين الدامعتين:

- فقط التماثيل الأليفة!

بشير عمري

قاص  جزائري

 


  




Share To: