وجهي ووجه الآخر | بقلم الأديبة السورية د. فادية كنهوش 


وجهي ووجه الآخر | بقلم الأديبة السورية د. فادية كنهوش



في الشارع، على مواقع التواصل في الشبكة العنكبوتية،عند الأصدقاء، في العمل، يوجد الف طريقة لالتقاء الأشخاص، بقناع أو من غير قناع...يشكل التقاء شخص آخر حدثا مهما يطرح علينا سؤالا بديهيا :من هو هذا الآخر؟ ماذا يخبرني وجهه؟ ما الذي يربطني بهذا الآخر(بعيدا عن القانون)، ولماذا حدث التقاء شخص ما ليس حدثا عارضا دون أي أهمية(وأغلبنا يعيشه كحدث عارض) بل هو تجربة تضع الفرد أمام نفسه(عارية) وتنزع أسلحته منه؟

ومن يفكر قليلا بمواقف الأشخاص وسلوكهم حين التقاء الآخرين(ولا سيما لأول مرة) او سلوكهم الذي يعتمدونه دائما في مساحة التقاء الآخرين ، اللقاءات المستديمة، كلقاءات الافتراضية على مواقع التوصل، حيث الكثيرون يعتمدون إخفاء وجوههم تحت وجوه شخصيات فنية او ثقافية وحتى سياسية مشهورة، ويذهب البعض الى استعارة الوجوه والأسماء، يدرك من يتأمل في مثل هذه السلوكيات  -وإن كانت غير واعية لمعانيها وإنما تهدف حماية ذاتها من نظرة الآخر وفي ذلك، برأيي، الكثير من الحقيقة-مدى أهمية "الوجه"في اللقاء المباشر او غير المباشر.أول ما أراه في الآخر هو "وجهه" وأضع كلمة وجه بين أقواس لأنني لا أقصد به تفاصيل كلون البشرة والعيون وشكل الأنف و.  و...لا أقصد به الوجه البشري المطلق الذي يحمل تعابير الروح وانعكاسها. وهذا الوجه ، دائما برأيي، هو أضعف جزء فينا، في جسمنا وهو الأكثر تأثيرا أيضا في النفوس وهو الذي يضعنا أما مسؤولية ذواتنا ومسؤليتنا عن الوجه المقابل لنا والذي يطلب تعاطفنا وحمايتنا المتبادلة. لقد قرأت عن أوامر كان قد أصدرها هتلر لضباطه وجنوده مفادها منعهم منعا باتا النظر في وجوه أسراهم من الموقوفين والمرحلين الى مخيمات الإبادة تحت طائلة عقوبة الرمي المباشر بالرصاص. قد أدرك هتلر تأثير النظر بوجه الآخر وخاصة عينيه وما يضع به الناظر من مسؤولية إنسانية ، فلا يعود هذا الوجه المقابل شيئا مهمشا يسهل قتله او تعذيبه بل يستعيد من خلال عيون ناظره كل حجمه الإنساني.

المفكر الفرنسي المعاصر(Levinas  توفي 1995)من اصول ليتوانية ، وقد عاش كل أنواع الاضطهاد والهروب من امام جحافل الجيش النازي وذلك لأصوله اليهودية، تتلمذ على يدي سلفه المفكر( Martin Heidegger  ) وكتب أول أعماله في مخيم للأشغال الشاقة حين أسره في 1940 وهو كتاب (من الوجود الى الموجود)ثم فتحت له أبواب السوربون وكتب(إنسانية الإنسان الآخر)و (الأخلاق واللامحدود) وغيرها من الاعمال التي كانت بهاجس الاعتراف بالآخر"إنسانيا". ويقول ما مفاده إن الوعي(الضمير بالعامية) هو أبعد من الأشياء والتشييء وذلك لأن الأشياء لا تكون كذلك إلا من خلال إدراكنا ووعينا. وأن إدراكنا للآخر لا يمكّننا من الوصول الى حقيقته التي تتجاوز قدرتنا على الفهم.لأن "الآخر" لا يمكن اختزاله بما ظهر منه. هو اللامحدود الذي يتجاوز قدرتي على تحديد ماهيته. ويقول:"طريقة تقديم الآخر لنفسه، تتجاوز فكرة الآخر في مفهومي، وهذا ما نسميه فعليا بال"وجه"(الشمولية واللانهاية)". اذا  أن وجه  الإنسان ليس فقط صورته وإنما كل شخصه أو بالأحرى، كل جسده هو وجهه.

لهذا كل واحد فينا هو ليس مسؤولا فقط عن صورته بل عن صورة الآخر بالمقابل، عليه حمايته كما يحمي ذاته وبذلك لا تكون المسؤولية نتيجة لسلوك "حر" لشخص فاعل وإنما هي ما يسبق الحرية وما يؤسس لها. وهذا ما سماه (Levinas) الأخلاق:أن أهتم لوجود الآخر وأدركه.

 اذن المطلوب مني أن أدرك أن من ألتقيه موجود أمامي كما أنا موجود أمامه، أن أرى في وجهه ضعفه وضعفي، أن أقرأ في وجهه وصية الخالق :"لا تقتل"  الوصية التي لم يدركها قايين مكتوبة في وجه هابيل والتي لا يزال يتجاهلها. القتل ليس فقط بإراقة الدماء، كل انتهاك لكرامة الوجه المقابل لوجهي هو قتل. قد يقول قائل أنا لا أستطيع التكهن بسلوك من التقيه، نعم، ولكنني أدين له بالإقرار والاعتراف بملء المساواة في الوجود والاحترام والخصوصية. الخصوصية التي هي نقيض الشمولية التي تقلص وتحد وتسجن  في إطار قد يكون طبقي، ديني، سياسي، عرقي، لغوي، أو حتى جنسي....

 أعود ل (Levinas) الذي يخلص الى القول، وقد يبدو في قوله بعض من تناقض:" أفضل طريقة للقاء الآخر هي عندما لا ألحظ في شكله حتى لون عينيه......".


د.ف.ك.




Share To: