الكاتبة السودانية / تسنيم عبد السيد تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الدرس الخالد" 


الكاتبة السودانية / تسنيم عبد السيد تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "الدرس الخالد"



في واحدة من رحلات مدرسته الابتدائية، كانت الوجهة إلى معاهد تعليم المكفوفين بمدينته، لم يكن متحمسًا، فالرحلة هذه المرة ليست للملاهي كما يُحب أن تكون، ولن يستمتع بالألعاب والركض مع زملاءه ولعب الكرة، ولو لم يكن الحضور إلزاميًا لما ذهب.


دخل (زين) رِفقة زملاءه إلى معهد المكفوفين، ظل طِوال الجولة مُمسكًا بيدِ صديقه (خالد)، الضجر بادٍ على وجهه، يلتفتُ يمنة ويسرة، يشعر بالملل فالمكان ليس على هواه. 


وفي أثناء الجولة وبينما مشرف المعهد يُرحب بالتلاميذ ويُعرفهم على المكان، لفت انتباه (زين) وجود ملعب لكرة القدم في معهد المكفوفين، فجأة وجد نفسه ينحرف عن مسار رفاقه باتجاه الملعب، أفلت يد صديقه دون أن ينتبه ذاك الذي كان مشدوهاً بالتركيز مع مرشد المعهد وهو يشرح للصغار الزائرين لغة التعامل من الكفيف.


اتجه زين ناحية الملعب، ومن على البُعد أثار إعجابه أحد طلاب المعهد الذي كان يلعب الكرة بمهارة عالية.


وقف زين على مقربة من الملعب يتقصى النظر، وأخذ يقترب أكثر فأكثر ليؤكد شكوكه التي خالجته والفضول الذي انتابه حول ما إذا كان هؤلاء جميعًا مكفوفين أو بينهم مُبصرين، "وأنّى لهم لعب الكرة بتلك المهارة العالية دون إبصار" - قالها زين مُحدثًا نفسه -.


وقف (زين) في ذهولٍ يشاهد الطلاب وهم يلعبون ويركضون خلف الكرة، جميعهم كانوا يُجيدون اللعب، إلا واحدًا كان أكثرهم ابداعًا ومهارةً واحترافية، يمتلك قدرة عالية على التمرير الصائب وتسديد الأهداف، اسمه "سالم" كان الصياح يعلو باسمه مع كل هدف يُحرز  لفريقه "الأزرق"، يعرفون بقلوبهم أن (سالمًا) قد أحرز هدفًا لكن لم يَرَه أحد ولا حتى الحارس، زينًا وحده قد رأى كل شيء. ازداد (زين) تعجبًا لأمر أولئك الفتية، وذاك الصبي الماهر الذي لم يرَ الكرة في حياته، لكنه يعرفها وتعرفه من لمسة قدمه فتستسلم وتنقاد إلى حيث أراد.


دخل زين إلى الملعب، يقوده الفضول للتعرف على ذلك الفتى البارع، نظر يمينًا فإذا برجلٍ جالسٍ على مقعدٍ خشبي، يتابع المباراة ومعه دفتر يُدون ملاحظاته، اقترب سالم من الرجل فإذا به معلم التربية الرياضية بالمعهد، وهؤلاء التلاميذ في اختبار للقدرات وليس لهوًا أو ترفيه كما هُيأ له.


عرَّف زين بنفسه ثم جلس إلى جانب الأستاذ المُدرِّب، وسأله: أهؤلاء جميعًا مكفوفين؟ فأجاب المعلم: نعم.


أدهشته إجابة الرجل، التفت عنه وجال بنظره على اللاعبين، علّه يصدق أنهم لا يبصرون، وبعد طول نظرٍ وامعان اطمأن قلبه وأدرك أن الإبداع حاضرٌ ولوغاب البصر، أخبر المعلم عن إعجابه بأداء اللاعبين وخصّ بالذكر ( سالم)، فقال المعلم: نعم، نظرتك ثاقبة يا صغيري، ويبدو أنك ماهرٌ في لعب الكرة مثلهم، فهؤلاء ليسوا أصحاب احتياجات خاصة فحسب، وإنما قدرات ومهارات خاصة أيضًا، وهذا الذي ذكرت أكثرهم براعة فعلًا.


سأل زين المعلم: لماذا لا يدرس هؤلاء في مدارسنا؟، فأجاب: لأنهم بحاجة لرعاية واهتمام خاص، وأيضًا لحمايتهم من أيّة مضايقة أو أذًى قد يتعرضوا له من بعض الجاهلين والمتنمرين.


طلب سالم من المعلم أن يسمح له بزيارتهم واللعب معهم، فأخبره المعلم أنه بإمكانه الانضمام إلى فريق المتطوعين الصغار لخدمة طلاب المعهد، الذين يقومون بأدوار اعتبرها المعلم مهمة في الترفيه عن المكفوفين، ودمجهم في المجتمع.


وبعد عامٍ من تلك الزيارة، عادت تلك الذكريات إلى زين مجددًا حينما طلب المعلم من التلاميذ الحديث عن أعمالِ خيرٍ يفخرون بها في حياتهم، لم يتردد زين أن يرفع يده ويكون أول المتحدثين، ليس لأنه الأكثر بذلًا وعطاءًا وفعلًا للخير، لكنه الأكثر تأثرًا وتفاعلًا وتعلمًا من التجارب الإنسانية التي يخوضها.


حكى زين عن علاقته بصديقه الكفيف (سالم) وكيف أنه قد غيّر في نظرته للحياة، وأنه صديقه حقًا ولا يشفق عليه كما ينظر إليه البعض، وقال: "أنا أحبه وأتعلم منه وهو يحبني كذلك".


وبعد الاستماع لقصة زين وسالم اختتم المعلم درسه بالقول: إن العبرة الحقيقية من هذه القصة تكمن في أننا جميعًا خلق الله، الناقص فينا ناقص بأخلاقه وليس خِلقته، أما الكمال فهو لله وحده، وأضاف المعلم - وهو يتعمّد التعقيب على قصة (زين) بكلماتٍ تكون بمثابةِ رسالةٍ من واقعِ الحياة في بريدِ الصغار، علَّهم يستقبلونها بقلوبهم وعقولهم قبل آذانهم - : من أنت حتى تُسيء معاملة غيرك أو تجرحه ولو بنظرة، أو تحكم عليه من مظهره وشكله. فلتعلموا أيها الصغار أننا بشر، قدراتنا وآجالنا محدودة على هذه الأرض، ولا قيمة لنا بغيرِ أخلاقنا.


صحيحٌ أننا لا نملك تغيير أقدار الناس، لكن باستطاعتنا تغيير نظرتنا لذلك القدر، والتصالح معه، لأنه ليس منقصةً ولا سُبّة، والأهم أنهم ليسوا سببًا فيه، أي أن من وُلد كفيفًا أو أصمًا او أعرجًا أو حتى قصيرٍ جدًا أو طويلٍ بائن...


كل أولئك وغيرِهم لا يُعابوا على خِلقتهم، لكن العيّب الحقيقي في من يعاملهم بدونية واحتقار، وكأنه أفضل منهم! لأن شكله أكمل - في نظره -، وهؤلاء ناقصون، ولا يعلم أن "الناقص" حقيقةً هو من ينظر للأمر بهذه النظرة القاصرة.


انتهت "الحِصة" لكن الدرس لم ولن ينتهي.




Share To: