الكاتبة المصرية / آيات عبد المنعم تكتب :رِسَالةُ اِمْتِنان لمرضِ "السَّرَطان"..
إنَّ الاِمْتِنانَ بلغَ مَدَاهُ عندي إلىٰ أنْ يمتن قلبي بِكلِّ رِضَا لمرضِ "السَّرطان"حينَ عانقَ جسد أُمِّي قبلَ الرَّحيل؛ فقد منحَ لي وجهاً آخراً لها لم أكنْ أطالُهُ لولاه.
أرَانِي كيفَ تغدو الأُنثىٰ جميلة؛ وإنْ تَآكلَ شيءٌّ من فِتْنَتِها؛
وتهاوت أَمامي الخَديعة الكُبرىٰ الَّتي كَرَّستها الثَّقافة الماديّة بِسَطْوة أَذْرُعِهَا الإعلاميِّة، وإعلاناتِها التِّجاريَّة؛ حينَ رَفعوا شِعار أنَّ شَعرَ الأُنثىٰ هَويَّتُهَا، وبعض بُروزٍ يَعتلي صَدْرَها، ووَجْنَتَيّها يُمَثِلُ جواز سفر عابر لقارات القُلوب.
لقدْ تَوارثنا أنَّ أي خطأ أو زوال لهذا الجمال سيُهدد وجود وكيان المرأة تُصبح بمعيار عين المجتمع السَّطحيَّة أنثىٰ ناقصة الأهليَّة.
لذا حينَ تبدأ المرأة رحلة العلاج من ذاك المرض تقفُ أمام صُورَتِها في المرآة كشجرة عَاريةٍ من الأوراق، تَشرأبُّ رُوحُها لا إراديًا وسطَ الحشودِ المواسيَّة لترىٰ قلبَ الرَّجل الذي أحبَّها إن كان عامرًا بالوفاء أو الخذلان.
حينَ تساقطَ شَعْرُ أُمِّي في كَفِّي؛ وغَابتْ قشرةُ الجَّمال الخارجيَّة ظهرَ لي جمالٌ من نوعٍ آخر تمامًا كما يذوبُ الثَّلج ويكشفُ عن سحرِ المَرجِ الأخضر في فصلِ الربيع؛ لمستُ ذاكَ الجَّمال الَّذي يحتاجُهُ كلُّ زوج حينَ تضيقُ بهِ الدُّنيا؛ وتعصرُ رُوحه الحياة ليأوي إلىٰ كهفٍ حنون، يُسندُ رأسَهُ على كتفٍ قويٍّ، يهمسُ في أذنيهِ صوتٌ يختزِلُ عبقَ "خديجة".
أدركتُ قيمة ذاكَ الجَّمال الغير ملموس الذي رُبَّما لا تُقَدِّرُهُ بَصائر الكثير من الرَّجال حينَ تغفل بَصيرتهم؛ وعندما تنتشر بينَ عَوامِ النَّاس نُكَت تسخرُ منهُ كتلكَ النُّكتَة الشَعبيَّة الدَّارِجة بِالَّلهجة المصريِّة "الجَّمال جَمال الرُّوح... رَّوح!" بِمَعنىٰ أهملْهُ وانْصَرف!.
لَمْ أعدْ أُبَالي بتقييم الآخرين لنسبة جمالي التي رزقني اللّٰه بها، وأعرفُ أنَّها ستزول عاجلًا أم آجلًا؛ كلُّ هاجسي الآن أن أحظىٰ بقدر من الجَّمال الَّذي مازالَ عطرهُ الأبدي يملأ زوايا وجداني؛ ويَجْذِبُني نحوه.
لقدْ توقفَ مفهوم الجَّمال الَّذي أصبو إليه عندَ أعتابِ جسدِ أُمِّي الهزيل الذي رغم غارة المرض المُباغِتة لم يتخلىٰ عن دورهِ في أن يكون مدرسة من لحمٍ ودَم.
كان بريقُ عينيها محرابُ صلاةٍ يتهجدّ بالشكر؛ ومسامُ كَفَّيْهَا تسابيحٌ، زُيِّنَتْ بِوَشمٍ كَربلائيٍّ عَتيقٍ خُطَّتْ عَليهِ بشكلٍ واضحٍ عِبَارة "ما رأيتُ إلاَّ جميلا"؛ يتحدَّىٰ عَوامل النَّحت القَهري؛ والعُنف الجَسدي الَّذي تُمارسهُ الجَّلسات الكِيماويّة.
لم تكن أُمِّي ملاكًا كانت بشرًا؛ وهذا ما أعطىٰ للصبرِ مُوسيقىٰ فَرِيدَة تُحاكي تَراتيل النَّاسكين في اللَّيل، كانتْ تُغْرِيهَا رفيفُ أجْنِحَةِ المَلائكة، تسعىٰ لإمتلاكِ واحدٍ منها يَحملها نَحو الأبدِ الجَّميل.
أُمِّي كأيِّ إنسان طبيعي تتعب، تبكي، أسمعُ صُراخَها الصامت الَّذي تُخفيهِ عَنا، أقصىٰ امتعاض لها كانَ دُعَاء سَمعْتُهُ مرةً واحدةً وقتما اشتدَّ بها المرض؛ قالت: "ارحمني يارب وارحني"؛ دونَ ذاكَ النِّداء كانتْ تُحبُّ الحياة تهتمُ بأخذِ دوائها بانتظام، تطمعُ أن تُتابع مشوار الدراسات العُليا، تتصل بصديقتِها لتُرسل لها الكُتب، تُفصح لي عن رغبتِها بِجمعِ بنات العائلة، وتقديم بعض الدُّروس لهم، المرض لم يُصبْ شَغفها بطلبِ العلم عِشقٌ رافقها من المهدِ إلىٰ اللحد.
كانت بِمُجرد أنْ تَقوىٰ علىٰ النهوضِ من الفراش تتناولُ فطورَها علىٰ الشُّرفة أو في الحديقة المجاورة للبيتِ مع ضوء الصَّباح تُشاركُ الشَّمسَ قراءة صُحف الأخبار لتمنحَ ليومياتِ الوَطن بَعضَ الدِّفء.
أنغامُ بَسمتِها الهادئة تملأُ سهرة المساء، تُضاهي آخر فيلم فُكاهي حضرنَاهُ سويِّة، وتستفز بداخلنا الإيمان بالضَّحكِ لم تكنْ تراه وسيلة ترفيه فحسب، بلْ طاقة تمنح للجسد والرُّوح العافية.
كلُّ ما ذكرتهُ كان جميلًا لكنَّ الأجملَ علىٰ الإطلاق معنىٰ التَّدَيُّن الحَقيقي الَّذي استوطنَ عقلي؛ عندما لم يُعينْها الجَسدُ إلاّ علىٰ أداءِ الفرائض الواجبة؛ لقدْ أينعتْ ثمار الَّذكر والصَّلاة الَّتي اعتادتْ عليها طيلة حياتها، وتجسدَتْ صبرًا وبسمةً وسلوكًا.
تعلمتُ منها أنَّ الدِّين خُلق عليكَ أن تُدْمِنَ ذكر الله لتتخلق بأخلاق الله، وهذا هو الجمالُ الأعظم.
عزيزي "مرض السَّرطان" رُبَّما سواد النّاس لا يرغبون بتلفظ اسمك وينعتونَكَ بالخبيثِ؛ أنا مِثْلُهم لا آراكَ طيِّبًا لَكِني لا أستطيعُ إلاّ أنْ ابْتَلِعَ الألم، وأرْدِمُ الهُوَّة بَيننا، وما سَبَّبتَهُ لروحي من حُرْقة.
أيُّها الزَّائر الثَّقيل رُبَّما سلبتَ من أُمِّي شيئًا منْ جَمَالها، وَجَعلتَني آراكَ بِمنظارٍ مُخْتَلف؛ إنَّك تُظهِرُ لنا جَمال الكَّثيرين خاصَّةً النِّساء اللواتي يُقاومنَّ هذا المَرض، وأسْر الصُّورة النَّمطيَّة السَّائدة بِأنَّهُنَّ جسدٌ جميلٌ فحسب!.
تَحيَّة ودُعاء بالشِّفاء العاجل والتَّام لكلِّ الأبطال ذكورًا وإناثًا حينَ يَجمعهم الجَّمال الإنساني، لكلِّ الأطفال والشَّباب والشّيوخ، أقوياء النُّفوس منهم والمُتْعَبين الذين يَتَحَدُّون قُبح ومرارة هذا المرض بِأرواحهم الجَّميلة.
شُكرًا "أُمِّي" وإنْ غبْتِ مازالتِ بِعيني أَيْقُونَة الجَّمال.
Post A Comment: