صرخة في وجه العالم | بقلم الكاتب المصري أ. محمد السعيد
كأني أصارع قوة خفية لا تريد أن تعلن عن نفسها. أكاد أجن، أمشي علي طريق طويل ، كثير المدقات والحفر ، بلا علامات إرشادية، ولا نهاية واضحة له . إني متعب حقاً ، هؤلاء الموجودين من حولي لا أثر لهم علي الإطلاق في حياتي ، كأنهم غير موجودين، أو كأن وجودي بينهم ضعيفاً وقابلا للكسر في أي وقت، وبأي طريقة . إستقبلت يومي بقليل من القبول وكثير من إلامتعاض، زميلنا الكبير الأستاذ حنفي في المكتب المجاور يخرج لنا ،دائماً، ضحكة صفراء ووداعة مصطنعة ، مع نظرة ثاقبة ومخيفة من نظارته الشمسية السوداء، كأنه أحد رجال البوليس أو أحد رجال العصابات عتاة الإجرام ، المسألة معه دائماً لها علاقة بالشك والجريمة، لا أعرف كيف؟ هذا مايبث حضوره من مشاعر في دواخلنا !، ويزداد ذلك الشعور تدفقا وحيوية خاصة حينما أتسلل من جانبه، بعد أداء تحية الصباح شبه الإلزامية في صمت وحذر، وأنا كلي رغبة مراوغة في ألا يراني ، فمكتبه قبل مكتبي، لذلك فجميعنا مضطر لمقابلته ، ولأنه يأتي مبكراً، قبلنا جميعاً، فهذا يعقد من المسأله ،ويجعل حلها صعباً. أما إبتسامته فخادعة وتخفي تربصا كأنه عدو أو ربما عين، وهذا هو الأرجح، من عيون الإدارة العليا علينا، أما أسئلته فمثله إستكشافية وخبيثة ، وتكشف إلى حد ما عن نواياه، علي الرغم من محاولاته المتكررة الظهور بشكل طبيعي وتلقائي ، لكنني ، مع ذلك، لم أتوقف يوماً عن إلاعتقاد أنه خطر عظيم وبمقدوره في أي لحظة أن يقلب الترابيزة في وجوهنا جميعاً ، ولهذا أعتدت أنا وزملائي فى المكتب التعامل معه بمودة مفرطة زائفة ومصطنعة ، خاصة عندما نقابله أو يجمعنا معه حوار، كأنه أحد أفراد الأسرة!، أو كأنه زميلنا المحبب والمفضل لدينا في نفس الوقت، كأن نقول له مثلاً:
-صباح الفل ريسنا الفاضل...
أو صباح الفل حبيبنا المحترم، أو نكبره بأن نقول : الرأي رأيك يا كبير ..ربنا يحفظك لنا ياريس. وكان يزيد ذلك من شعوره بأهميته وسلطته الخفية الغامضة علينا، ويطمئنا قليلاً في نفس الوقت من ناحيته!
دخلت المكتب أول واحد ثم تلتني مدام عفاف حاملة شنطة يد حمراء ، وأنفاسها تكاد تسبقها، ممتلئة إلى حد ما. جاءت بعدها بقليل مدام أحلام وجلست علي مقعدها سريعاً ، بدت عفاف نشيطة ومثابرة كعادتها، جلست بعد أن ألقت علي تحية الصباح، ثم أخرجت علبة نسكافيه صغيرة من شنطتها ، بعدها أخرجت ماجا أبيض من درج مكتبها، ثم مسحت عرقا علي الجبهة بمنديل وردي . أما مدام أحلام فوضعت وجهها علي يدها حزناً لم ندرك سريعاً سببه، لكنها لم تبكي أبداً ولم تتكلم في نفس الوقت ما أثار حفيظتنا وثارت معه أسئلة مكبوتة داخلنا عن العلاقة بين صمتها ومتاعبنا . فجاءة ألتفتت مدام عفاف إلى أحلام الحزينة وفحصتها بتركيز ثم سألتها بقلق :ماذا بك يا أحلام؟
فلم ترد عليها ولاذت الأخيرة بالصمت دون أن تنظر حتي إلي وجهها، فإقتربت عفاف منها أكثر وسألتها مرة ثانية، وهى تحاول قراءة ملامحها :مالك يا بت، فلم ترد فانزعجت وعادت إلي الوراء ثم قالت: يانهار أسود، فلم ترد مرة أخرى.
- مين مات يابت ؟!
نظرت إليها أحلام وهي تداري دموعها الهاربة من مقلتيها و قالت في أسي :دنيا بسيوني زميلتنا.. . ضربت عفاف بكف يدها علي صدرها الكبير قائلة :بتقولي إيه دنيا.. إزاي دا حصل.دي لسه مكلماني إمبارح ، ثم دخلت في نوبة بكاء مفاجئة وشديدة بشكل يسترعي الإنتباه. كنت أتابع المشهد بشئ من البرود واللامبالاة، كأني أشاهد فيلماً بالأبيض والأسود شاهدته من قبل ، لكني لم أفقد بعد الرغبة في إعادة مشاهدته ولو للمرة العاشرة. كنت قد أطلعت علي الخبر صباحاً أثناء تجوالي المعتاد علي منشورات الأصدقاء في الفيسبوك . ظلت عفاف تبكي بحرقة، وهي تسأل نفسها كيف حدث ذلك؟ فيما جلست أحلام صامتة تتابع ،وهي حزينة ومصدومة لكنها كانت تجيبها بصبر وإيمان عميق رغم صغر عمرها وقلة خبرتها .
تسلل شعور خفي بفرج قريب ، شعرت بخفة في روحي، علي الرغم من حالة الحداد والحزن. تذكرت فجأة الأستاذ حنفي ثم تلفت حولى لعلي أجده فلم أره!. قلت لنفسي :لعله لم يسمع بكاء عفاف أو لعله في الحمام. بدا الحوار يقترب من الأيام الأخيرة في حياة دنيا وعن زوجها رأفت الذى يعمل في ديوان عام المحافظة، وكيف نشأت العلاقة بينهما إلى وليدها الأول وأسرتها حتي وجدت أمامي فجاءة الأستاذ حنفي بشعره الأبيض ونظارته السوداء يسأل :ماذا بك مدام عفاف؟ أراك تبكين.. ماذا حدث؟ قالت في تسليم :دنيا بسيوني تعيش أنت، هل تعرفها؟
-لا حول ولا قوة الا بالله، الحق أني لا أعرفها لكن يرحمها الله، هل الوفاة كانت طبيعية؟
-لا نعرف حتي الآن لكنها لم تكن تشتكي من أي شيء. بدا الأستاذ حنفي حزينا أسفا رغم عدم تذكره أو ربما معرفته لدنيا . ولكنه بدا حساساً جداً تجاه خبر الوفاة في حد ذاته ،سمعت ذات مرة أنه يقترب من سن المعاش، وأنه مثل كثيرين في هذه المرحلة يفكرون فيما ينتظرهم بعد المعاش ..الوحدة ..التجاهل ثم الإستعداد للآخرة .لكنه مع ذلك بدا لي متناقضا في مشاعره وسياساته المنفرة، إذ كيف بجمع بين شخصين شخص طيب وشخص آخر شرير في نفس الوقت ،كيف يجمع بين الرحمة والقسوة في آن واحد !. في هذه الأثناء دخل الأستاذ كامل سليم رئيس القسم ومديري المباشر حاملاً شنطة جلد سوداء وهو يقول :شفتم اللي حصل .. دنيا بسيوني ماتت .ثم وضع الشنطة فوق مكتبه.نظرت اليه عفاف وهي تجفف دموعها ،فيما حدجته أحلام بنظرة واعية و متفهمة.كامل سليم مدور الوجه ،ذو أنف افطس وعينان لوزيتان وفم كبير ،ربعة. إسمه يتناقض ويتعارض كلية مع شخصيته الحقيقية،فلا هو كامل ولا صنع شيئاً يسمه بالكمال .لكنه ،مع ذلك، بدا حزينا مصدوما من وفاة دنيا.شرع يحكي لنا متأثراً عن علاقته بها ، وأخر مقابلة معها ثم تذكر زوجها . الحق أنه كان يبدو مهزوما إلي حد ما .تدفق إلي روحي شعور بالدفء خاصة أنه يأتي من شخص بيني وبينه معركة وصراعات داخلية غير مرئية .رفعت إلي أعلي ديواني الأخير الموضوع علي المكتب (صرخة في وجه العالم ) وتأملت الإسم الفني الجديد الذي إخترته لنفسي )،مروان الجندي بدلاً من مروان السكري.كانت فكرة أحد المعارف بعدما حكيت له قصتي وشكوت له مما حدث معي في مكتب الشئون القانونية . كنت قد قضيت ثلاث ساعات في تحقيقات، علي إثر شكوى مقدمة من أحد الأهالي يتهمني فيه بتأخير رفع المياه لمساكن الحي ،وعندما سألوه: من تتهم ؟ أجابهم:شخص يدعي السكري وهو مسؤل رفع وفتح المياه .وهناك شرحت لهم مراراً وتكراراً أنني لست الشخص المنوط به رفع المياه للسكان , وأنني مسؤل الصادر والوارد بمرفق مياه الحي فقط. ،حتي سمعت من يناديني :يا سكري..يا سكري..تعال .ثم سار معي حتي مكتب السيد مدير التحقيقات الذي أمرهم بإشارة من يده أن يتركوني وشأني ،بعدما أعاد إلى تحقيق الشخصية قائلا: مع السلامه يا سكري.
ألحق أن هذه الحادثة أثرت في نفسي ،وجرحت كبريائي الشعري والفني بوجه عام. إذ كيف لفنان كبير مثلي أن يعامل بهذه الطريقة؟ وقد أضفت هذه الحادثة إلي حياتي نوع جديد من الإحباط الذي لازمني لفترة طويلة نسبياً ،هذا غير علاقتي بكامل سليم المتوتره أصلا . تكمن المشكلة في كوني شاعر مثقف ومسئول صادر ووارد في نفس الوقت ،ما يشعرني بحدة التناقص ولا معقوليته،ويزيد من حدة صراعاتي الداخلية ،ويجعلني شخص فصامي ، مثل كل شيء حولي ،ما هذا؟ وكنت أسأل نفسي دائما :ألا توجد معاملة أفضل من ذلك ؟ ألا يكفي كوني شاعر كي أكون من ذوي الحظ والقريبين من كبار المسئولين؟ أم أن المشكلة في شخصي أنا؟ في مرة ناداني كامل بسخرية :يا سكري..تعال استلم المكاتبات دي .
كانت المكاتبات كلها موجهة له شخصياً ، فلماذا لا يستلمها بنفسه، كأنه كان يأمرني بأن ألقي بنفسي من فوق برج القاهرة! ؟ إستلمت المكاتبات رغماً عني،بعدها شكرني بنفس الطريقة قائلا: شكراً يا سكري ..يا شاعرنا الهمام .كم كرهت إسم العائلة هذا ،وكم كرهت خطواتي حتي مكتبه !.
خيمت حالة من الحزن علي المرفق كله ، توقفت عفاف عن البكاء ، واستسلم الجميع بمن فيهم كامل والأستاذ حنفي لأوامر القدر ،وتغير مسار الحوار من السؤال عن أسباب الوفاة ومصير الزوج والأطفال إلي وقت صلاة الجنازة ومكان الدفنة والعزاء،فيما أعلن كامل عن إجازة استثنائية أمر بها رئيس المرفق لجميع العاملين لحضور الجنازة .
شعرت كمن فك أسره،وكسرت قيود حديدية تلقائياً من حول يده ، أخذت أتحسس يدي برفق ثم أغلقت درج مكتبي وخرجت للشارع ،كنت كمن وقع في بقعة ضوء صباحية كثيفة. حاولت تذكر صورة دنيا بسيوني فطالعتني صورة مشوشة الملامح لوجه قمحي وعينان سوداوان،وفما لم أستطع تبين شكله وحاجبان ورموش ثقيلة،ومع ذلك لم أتعرف علي صاحبة الصورة تلك ،فلا هي دنيا ،ولا الصورة ذكرتني بها . لكنني كنت أعتقد أننا تقابلنا من قبل ،رحمك الله يا دنيا....دنيا. سرت في الشارع حزيناً وقد شملني شعور بالفراغ والوحدة ، لا أدري حقيقة ما سر عذابات البشر ؟ وما الجدوي منها ؟ وهل للمعاناة أهمية وضرورة؟تذكرت ميعادي مساءاً مع المعلم حموده أبو صرم فغمرني شعور قوي بالحياة والسعادة ،وتذكرت مقولة سمعتها من أبي ذات مرة : الصديق الجيد نعمة من نعم الحياة !
أين أنت يا أبو صرم؟
Post A Comment: