الغربة والحزن ومعزوفة الألم الجميل( قراءة في ديوان وردة أخيرة للجرح لمحمد فؤاد ) | بقلم د/ شعبان عبد الحكيم محمد  


الغربة والحزن ومعزوفة الألم الجميل( قراءة في ديوان وردة أخيرة للجرح لمحمد فؤاد ) | بقلم د/ شعبان عبد الحكيم محمد


                                                                 

محمد فؤاد شاعر متفرد في أدائه  ، صادق في تجاربه الفنية ، فيشعرك أنَّ النصَّ جزءٌ من صاحبه ،مقلٌّ - وفي الوقت نفسه - مجيد في عطائه ، فرغم هذا العمر الفني الطويل(ما يزيد عن ثلاثين عامًا ) من العطاء الفني ، لم ينشر سوى ديوانين (دماء على خيوط الفجر ، الركض إلى حدائق الأحبة ) وهذا الديوان الثالث " وردة أخيرة للجرح ط . مركز الحضارة العربية . القاهرة . د . ت " فمحمد فؤاد لا يكتب إلا حين تراوده القصيدة عن نفسها وبإلحاح ، فتختمر التجربة ، وتمور نفسه بها ، فتنسكب كلماتها على أوراقه ندية نابضة بجماليات الفن ، الذي يضمر في أعماقه أصالة الأداء ، وجماليات التعبير ، ورتاقة الدلالة،  وإذا كان العنوان عتبة أولى للنص ، فالشاعر يصدمك بعنوانه ، فجعل الودة مضمدة للجرح المنفتح ، وكان المتوقع أن نجد ضمادة أومضادًا حيويًّا لوقف نزيف الجرح ، ولكن  لتفاؤله كشاعر ، ولسمو روحه جعل علاج الجروح بالورد ، كما أنَّ الشعر – وكذلك الفن في كلّ أنواعه-  ينسج لنا من التعاسة والألم حياة ملؤها الجمال والأمل ، جمال لأن الألم وقود التجربة  والعطاء الإبداعي ، فينسج من المستحيل أملًا ، والشاعر نفسه ينسج من المحال أملًا ففى نهاية قصيدته " الركض إلى حدائق الأحبة" فرغم استحالة  العودة للطريق الملغَّم برفض رجوعه  ، يقول :

طريقي محاصرة

والمسافة بيني وبين الأحبة

أشلاء ورد قتيل

فكيف الوصول إلى من أحب ؟

كيف الوصول ؟

إذ كيف لي أيها الصمت أن أعبر المستحيل

وأن أعبر الشارة المستحيلة للحظة الماتعة ص 78

نجد هناك الأمل يفرش نفسه ضوءًا وأملًا وتطلعًا لغد جميل ، فيتخيل رجوعه فجرًا جديدًا وغدًا مفعمًا بالحياة الرضيّة الجميلة ، يقول في النهاية :

والأفق يمتد

والسحب تسحب أذيالها

والنهارات عادت  تتوجني

بالضياء الجميل

وهذا دمي الآن يبزغ فجرًا

يوصلني للأحبة

بعد الغياب الطويل

فهيا اركضي واركضي يا خيول ص 82

فقصائد الديوان التي بلغت سبع عشرة قصيدة (متفرد في حدائق المدى - أغانى الضياء- أعيديني - القصيدة تشكو الغياب الطويل - عام الحزن - كلمات إلى الوطن المغترب – شاعر- رسالة إلى أبي ذر - بردية قديمة حديثة - وردة أخيرة للجرح - عيون عربية - زهرة للوطن - يا مريمية – ضياء - الركض إلى حدائق الأحبة - أعطني من رؤاك خيالًا ، مرفأ ) هذه القصائد تعبر عن تجارب ذاتية للشاعر ، ومن خلالها يطفح ملمحا الغربة والحزن  اللذان يرتبط كلاهما بالآخر بعلاقة السببية ، نتيجة لظروف الشاعر الخاصة ، وإن صاغ الشاعر هذه التجارب في ثوب الفن الشفيف ، بعيدًا عن التقريرية والصراخ العالي ، وفي الوقت نفسه يرفض الإبهام والإلغاز والتعمية ، وقد عبَّر في ديوانه عن نهجه الشعري ، فشعره ليس من شعر الحداثة الذى يضرب بكل معايير الفن السابقة عرض الحائط فى صنع المعجم اللغوي الذى يربط بين ألفاظه رابطة التجاور والقربة ، ويصنع الصورة الشعرية ذات العلاقة المتوقعة بين عناصرها ، ويرفض موسيقى الشعر المعتادة ، يعبر محمد عن تجربته الشعرية المتفردة  والأصيلة – أيضا – لكنها لا تلجأ إلى التقليد والجري وراء نمط شعري ما ، مما جعل تجاربه أصيلة ، يقول  في قصيدة "  شاعر" معتزًا بذلك مشبهًا نفسه بنسر يعلو في سماء الإبداع ، لتفرده في أدائه :

نسر يدوي فترتاع

منه الحداثة

يدخل أربابها في مغارتهم

حين يكتب ، خيل الأصالة كانت تكرُّ​ص 38

كلما قصد " الشعر " أعطى له الشعر مفتاحه

والطيور على شاطىء الشعر ترتاده مثل بحر

.....

وينبوعه يستفيض

فيقرر بعدم اتباع غيره تقليدًا ومسخًا ، أصيل في نسجه ، يرفض الحداثة ونهجها الشعري ، هدفه وغايته من النص الشعري صنع الجمال، يقول :

أنت ...حين اصطفيت الجمال

اصطفاك الجمال ص 39

هكذا تتجلى الذاتية في الديوان ، بداية من تعبيره عن نهجه الشعري ، كما رأينا في قصيدة " شاعر " وامتدادًا لرؤيته السابقة نجد تعبيره عن شفافية التجربة الشعرية ونضارتها في قصيدة " أعطني من رؤاك خيالًا " هذه القصيدة التى تأخذ في مقدمتها صورة المبتهل ( للشعر ) ليكون معينًا له في نظمه ، كى يمنحه القصيدة النضرة المتألقة جمالًا بلغتها وخيالها وقافيتها ،و إيقاعها ( عبرعنه في القصيدة بالصوت العذب وبالنغم ) وهذا يعكس لنا النص رؤية الشاعر فى تشكله اللغوي والتخيلي والإيقاعي ، يقول :

أعطني من رؤاك خيالًا

أعطني لغة من ضياء

ومن وشوشات القمر

أعطني صوتك العذب حتى تتم القصيدة

أو زخمًا من نشيدك

أو نغمًا تستهل به أحرفي المجهدات ص 86

ويضفر في هذه القصيدة ابتهالاته لتجاوز مشاعر الحزن التي تعتريه ، والتي يمكن كما تقول القصيدة أن تؤدي إلى توقف الشعر على لسانه ، إذا سيطر عليه الحزن القاتم الذي يسيطر على روحه ، فتضيع منه مكونات القصيدة بعد ميلادها ، فيقوم بتمزيقها وحرقها ، إنَّ الشاعر – هنا – يعبر عن ضبط نفسه عن تماهيه في الحزن ، هذا التماهي يجعل إنتاجه يضمحل ،لأنَّ التوتر الزائد مدعاة لتفلت الشعر من مخيلته ، ومجيئه مضطربًا فضفاضًا ، يقول :

فقل لي : لماذا سكت ؟!

لئلا أتوه ببحر القصيدة

أغرق في حزنها

وأمزق أحرفها

ثم أحرقها بالدموع

وأنثرها في دروب الشتات ص 83

هكذا ظهرت الملامح الفنية لشعر الشاعر في الديوان أنَّ الشعر جاء ترجمان عن نفسية صاحبه ، هذه الروح التي يتمتع بها الشاعر روح طيبة نقية تقطر صفاء ونقاء ، روح كروح الطفل الغرير يندهش بجمال الطبيعة والحياة ، يعيش الجمال في كل

صورالحياة : ابتسامة الطفل ، زقزقة العصافير ، ترنيم مقرىء بآية من القرآن ،  يقول في قصيدة " أغاني الضياء":

بسمة الطفل حين تطالعني في الصباح

وأنغام آي من الذكر تتلى

وشقشة الطير

قطر الندى

بعد همس النسيم لروحي

يزاوج روحي دموع الفرح

فتسمو تحلق بي قرب غايات حلمي​ص 12

وإن وجدنا فى الإهداء الاعتراف الصريح بجرحه :

مكلوم رغم البسمة تبدو

واضحة كالشمس

ورائقة كحليب الصبح

وناعمة كالورد الغض

وواثقة كالنيل

مكلوم يضحك ياوطنى ص5

ولكن رغم ذلك نجد الشاعر يتجاوز هذا الجرح المنفتح ، ليجعل من الشعر بلسمًا ودواءً ، فالقصيدة جزء من الشاعر ، أو قل هي كيانه وروحه المرئي  ، يندمج الشاعر بها ويندمج في النص فيعيش التجربة من أعماقه ، لذا جاء شعره قطرات من دمائه ، وإن كان يعايش التجربة ، ولكنه لا يتوه فى مساربها ، إنها المعايشة الفاعلة التي تنتج شعرًا شجيًّا مؤلمًا ، يقطع الأحشاء والمهج ، وينتج النص المتفرد أداءً ودلالة ، ففي قصيدة " القصيدة تشتكي الغياب " وعنوان القصيدة يشي بالغربة والحزن ،فالشاعر وقصائده صنوان،أو وجهان لعملة واحدة( هي الإبداع) ، الشاعر يشتكي الغربة والغياب عن الوطن وكذلك القصيدة ، وهذا يؤكد مدى توحد الشاعر في شعره ، يقول :

ويبدأ طقس القصيدة فيَّ

سماء مكللة بالوداع

رياح الفراق تهبُّ على القلب

من كلّ جنب

وثرثرة وضباب

وأنفاس جرح يئن

يباغت وجهي الحزين

وموج من الغضب ، الشاهد الدم

ينزف من جسد قد تناثر

حتى استفاض دما

أرهقته الرياح العبوس

وناوشه المستحيل بقرب الغياب ص  20

القصيدة تعبر عن مدى اجتياح الشعر له ، فالقصيدة هي التي تراود الشاعر ، ولا يتكلف في استقدامها ، فترغمه على الإبداع ، كالصوفي الذى تعايشه التجربة ، ويعايشها توحدًا وشجنًا ، القصيدة ابنة لحظتها الشعورية ، ويشعرك الشاعر بأنها تجتاحه ، في صورة رياح الفراق التي تأتي عاصفة مدميّة على قلبه ، تحاصره في ثرثرة وضباب، وأنفاس جرح يئن ، وينزف دما ، لأنه يناوش المستحيلا ، الحزن القاتم يلفع القصيدة بردائه المتشح بالأسى والألم ، ويستمر توحد الشاعر في النص بما يشبه وحدة الوجود عند المتصوفين ، وحدة الوجود التى تجعل جميع مخلوقات الكون في ربقة واحدة ، الجماد والإنسان والحيوان...كل في منظومة متداخلة ، ووجد الشاعر في الكائنات توحدًا تعبيرًا عن مدى ارتباطه الروحي بها ،والشوق الملتاع للوطن الشجر بظلاله الندى ، الطبيعة بسحرها ، نخيلها وفضائها الندى ، ونجومها ، وقد أصبحت جزءًا منه ، وصار جزءًا منها ، يقول :

ابن النخيل الذى ينتمي للفضاء

أنا ابن النجوم التي ترتمي تحت غصنك​

يا شجري لا تودعني لست أقوى

وامتدادًا لهذا التوحد يجدل الشاعر بهذه الكائنات صورة ابنه الذي أهداه القصيدة (إلى ولدي إسلام : جرحًا وغيابا ) والإهداء يعبر عن ملمحي الغربة والحزن القاتم اللذين يجتاحان الشاعر ، في صورة مؤسية ، فصورة الصغير تزلزل الفؤاد ، خاصة أن الطفل  يحسُّ بمشاعر أبيه ، ويحاول الصبر ما استطاع ، ولكن لم يستطع ، فتفضحه دمعة شاردة في مقلتيه ، يقول :

وهذا صغيري

ينزف شريانه حين يقتاته الجرح

يعصب عينيه

ينهشه الوجع العفوى العنيد  

يقاوم ما استطاع ...وما اسطاع

يختبىء الدمع فى مقلتيه

ولا ينحني للجراح ص 21-22


يجمع الشاعر في ديوانه شكلين من الأداء الفني :  الأداء الفني الذي يتصف بالغموض الفني ،وهذا الغموض الذي يظنه بعضهم أنه عيب فني ، ولكن الغموض في اللغة ( من غمُضَ الشىء إذا دقَّ مسلكه ) والإبداع يقوم على دقة المسلك وشفافيته ، ونقيض الغموض الفني الإبهام والإلغاز والتعمية ( كما ذكر د. عبد الرحمن القاعود فى كتابه الإبهام فى شعر الحداثة) وفيه يستخدم اللغة بصورة منحرفة عن مسارها المعهود ، لا بصورة تتصف بالإبهام والضبابية ، ولكن بصورة فنية ، منها قوله في قصيدة " متفرد فى حدائق المدى " :

لك في مسامرة الجراح وسيلة

لك غاية

لك في الفصول حكاية

لك في المساء قصيدة

لك في اصطفاء فراشة الأحلام ...إلخ

القصيدة صفحة من صفحات ترجمة ذاتية فنية عن الشاعر ، وبصورة شعرية رقيقة هامسة ، لا بالصورة التقريرية الصارخة ، ولكنها تعتمد على الإيحاء وظلال المعاني ، من خلال معجم لغوي ، لا يتدنى إلى مستوى الإسفاف ، ولا يتعالى إلى مستوى التعمية والإبهام ،  يعتمد فيها الشاعر على تكرار ( لك في ) ليوحى مواربة عن كثير  من جوانب حياته ، حزنه المستمر ، والذي يتفجر ليلًا ، وقد عبر عنه بـ( مسامرة الجراح ) وفي مغامراته فى الحياة بـ ( الفصول حكاية ) وفي الشعر بـ ( قصيدة ) التي تعتمد على الخيال المفعم بهالة نورانية ( من غصن الخيال مهارة ) وبهذا التفرد في تجربته صنع لنفسه مكانة في عالم الشعر ( لك في دروب قوافل الشعراء ، لك راية ) ومن خلال التجارب الشعرية يصنع عالمه ، المعبر عن الحزن الشجي ، وعن غربته المدمرة ( ولي شوق المدى ص 8  ) هذا الشوق الذي يسافر في الأعماق ، متلفعًا بحنين الذكريات ، التي تمور في نفسه متضمنة لعهد البراءة والصفاء ، ليثبت لنا الشاعر فى كل قصائده أن الشعر هو الذي صنع الجمال في االحياة رغم الحزن والغربة ، يقول في القصيدة نفسها :

يا ذا المسافر في شراييني

وأوردتي هدى

يا ذا المسافر

تحتويك مدائن العشق المتوج

والمجاهر بالندى

هذي نخيلك

تشرب الأطيار ضحكتها

وعصفور على أغصان قلبي غردا

ساءلت ليلى العامرية عنك

فاتكأت على التوباد بسمتها

وأسلمها حفيف الشوق للأحلام

وانداح الصباح بوجهها الوردي

بللها الندى ص 9

ومن القصائد التي تعكس هذا المستوى – أيضا – قصيدة " يا مريمية " والتي أظن أنه يخاطب فيها " مصر " بأن تأخذ دورًا أكثر إيجابية في التصدي لمشاكل الأمة ، وعدم الاقتصار على الكلام ، وإن كان العنوان يكدّ ذهن القارىء لفهم مقصديته  ، فمريم أم نبي وطاهرة ، جاءت مصر وأحبت مصر وأحبتها ،ومخاطبة مصر بمريمية يليق بمكانتها الجليلة ، يقول :

يامريمية

هل دماؤك أصبحت لغة الكلام ؟!

هل وجدت عبارة أخرى لوقت الجرح

هل أصغى لك الزيتون ؟!

هل أصغت يمامته الحزينة ؟

أم ترى وقف الندى مستبشرًا

في بابك الشتوى ص69

فالشاعر يلمح بالانتباه بعدم الانصياع لخدعة النداء بالسلام وشجر الزيتون ، فهذه شعارات كاذبة ،يجب الاحتياط منها ، ولعلنا نلاحظ طريقة استخدامه للغة في التعبير بصورة غير مباشرة ، تعتمدعلى التلميح والإيحاء ، ويتماهى في مخاطبة مصر بأن تثور وترفض كل ما هو غير منطقي ، وتقوم بواجبهامن أجل مستقبل أفضل ،يقول:  

يا مريمية حولي لغة الكلام دمًا

ونبضًا في شرايين العروبة

وأنشري أنفاس عطرك

في صباح مدائننا

وضفيرتك مساحةخضراء

ترسم نقطة الأمل الثري ص 70

ويوظف الأحداث التراثية لقصة مريم بما يتماشى مع تجربته الفنية ، في قوله قولي لهم ، مامسني بشر ، ولكني حملت الحزن ، في قلبي شعاعًا ،هزي إليك بجذع أغنية ،تساقط روحك ، الملأى نقاء ، واقطفي ثمرة الشهادة ، حوله زهر ندي (ص 72 )لتحمل الحزن الذي يثير غضبتها ، وتهزأ القلوب بأغنيات الحماس ، من أجل النضال لإدراك الثأر ، ودفع النفوس رخيصة استشهادًا للحق .

والمستوى الثاني من الأداء الفني فى الديوان ما أطلق عليه ابن الأثير قديما " الشعر السهل الممتنع " وهو الشعر الذي تراه سهلًا قريبًا إليك ، ولكن إذا حاولت أن تقول مثله تأبَّى عليك ، ومثَّل بقول البحتري :

أتته الخلافة منقــادة   إليه تجرر أذيالــــها

فلم تك  تصلح إلا  له   ولم يك يصلح إلا لها...إلخ

وهذه القصيدة  تعتمد على الإيقاع ، وسهولة اللفظ ، وقرب التصوير الأخاذ الذي يسحرك ، ومن نماذج هذا المستوى من الأداء الفني الجميل الساحر " الشعر السهل الممتنع " قصيدة " أعيديني "، والتي يقول فيها :  

أعيديني إلى حقلي

فراشاتي تناديني

سنابل حقلنا حنَّت

لأصوات الحساسين

.....

أعيديني إلى النَّوار

والصفصاف والتين  

أعيديني إلى أمي

إلى قلب يناغيني

إلى أعطاف قريتنا

إذا اهتزت تحييني

أعيدي لي صباباتي وأصحابي  

أعيديني

لأزهاري ونسريني

أعيديني

لظل الواحة الخضراء

أقطف من بساتيني  ...إلخ من ص 16 : 18

ولعلنا نلاحظ اعتياد الشاعر على التوحد ، توحد ذاته الإنسانية مع ذاته الشعرية ، لتكون القصيدة هي الوجه الآخر لروحه الوضيئة الندية ، وهنا في هذه القصيدة نجد التوحد مع الطبيعة القروية الجميلة مناديا قريته التي هي رمز للوطن الأم ، بل نجد النداء يتحول بعد ذلك إلى أمه (التى أظنها الوطن ) قريته بحقولها وأناسها تبعث الجمال في النفوس ، ونعيش في أحضانها ساعات الألق والنشوة ،  الحقل بسنابله وفراشاته ، وعلى فروع أشجاره تغرد الحساسين ، ومما يؤكد مقصدية الشاعر بمن يناديه ( قريته الجميلة) تأكيده في نهاية القصيدة بأنه يكره حياة الجدران والانغلاق ، ويحب حياة الاندماج في الطبيعة والتوحد بها ، ثم قوله :  

دعي الأشعار تسبح بين مكنوني

سئمت صلادة الجدران

في كل الميادين ص 18

هذه الروح الشعرية التي يكتب بهاالشاعر جعل من جرحه المدمىّ قنديل حب وأزهار عشق للوطن رغم غربته والترحال ، وجعلت القصيدة معزوفة موسيقية بارعة تطرب لها القلوب ، وتلذُّ لها النفوس ، يقول في قصيدة " القصيدة تشكو الغياب الطويل " :

جرحك أنك تكتب شعرًا نديًّا

يداعب روح اليمام

ويسكنه الوجع الأبوي الحزين

وجرحك أنك أسست مملكة الروح​

قرب الغمام

وما كنت تدري لغات الزلازل

ما كنت تحسب أن الشراع يخون

وقد حاصرتك الزلازل

قد أربكتك العواصف

قد أسلمتك القبائل

لما صحبت الغمام

وأسلمك الحزن للمستحيل

وألقاك في قاع وادي الغياب الطويل

فأدمنت بوح النشيد / النشيج

وعانقت حزن القصيدة ص 27

القصيدة تتفجر حزنًا وألمًا ، ولكن في الوقت نفسه نجد هذا الحزن مفجرًا للطاقة الإبداعية للشاعر بالشعر الوضىء الذى تنساب ألحانه ، في أعماق أرواحنا ، لتوحد الشاعر بقصيدته وتوحده بوطنه كما مرَّ بنا ، فجرحه جاء نتيجة إنشاده شعرًا نابضًا حيًّا جميلًا ، صادق التعبير عن حبِّ الوطن ، وتعبيرًا موحيا عن الذى خانوه وباعوه ، ووقوع ما لم يكن يحتمله ، في صورة موحية لطيفة " الشراع يخون " تعبيرًا موحيًّا عن حدوث ما لم يكن في المتوقع حدوثه ، و " حاصرتك الزلازل " و " أربكتك العواصف " و " أسلمتك القبائل " هذه الجمل الشعرية المسبوقة بحرف " قد " الذي يدلل على التحقق ، وقد كان ، هذه الجمل يجمع بينها التوازن النغمي الذي يصنع الإيقاع الموسيقى ، والذي يوحي بمأزق لا يتوقع ، ربما يكون قد دمر أشياء كثيرة في حياته ، ولكن رغم ذلك وجدنا تلطفًا في التعبير ،  وظلال المعنى الرقيق  كسر حدة الواقع الأليم . 

-4-

ذكرنا أن الديوان يُبنى على تيمة الحزن والغربة ،وإن كنا نلاحظ أن الحزن عندالشاعر ليس حزنًا ميتافيزيقيًا قاتمًا ،فالحزن مصدره ضياع أمال الشاعر في صنع مستقبل يليق بإنسانية الإنسانية ، في زمن تداخل فيه كل شىء واختلط الحابل بالنابل ، هذا الحزن أبدع شعرًا ، وهنا بادرة الأمل للحزن المبدع شعرًا ، وكما ذكرنا ليس الحزن عند الشاعر بلا مبرر ولا سبب ، لكنه حزن ناتج عن الغربة التي أضاعته ، وجاء الشعر تعويضًا وتنفيسًا عن عالمه المحزن الأليم ،  يقول :

فقد جاوبتني القصيدة ذات مساء حزين

تعاني غيابك ...جرحك .... صبرك

صوتك لون الدماء

دموع المحبين جنبك ... صمت الأطباء

إذ يرقبون مسار الدماء

بشريانك المتهتك  

وقد بلل الحزن معجم شعري

حين بدت طائرات الفراق تئز

وتمنحني فرصة للغياب البعيد / البعيد ص 24 :25

وفي الديوان قصيدة بعنوان " عام الحزن " والعنوان تناص مع عام الحزن الذى حدث مع قطيعة قريش للنبى( صلى الله عليه وسلم)  وأهله قال فيها :

هذا عام الحزن

لم نبصر فيه وميض شعاع

لم تمطر فيه سحاب قط

وإن تمطر

لا تروي إلا الأحزان

   بوادي القلب

ولذا نراه بعد ذلك يصنع مفارقة لماحدث في التراث ، فقد أسرى الله ( سبحانه وتعالى ) بنبيه ليتجاوز هذا الحزن ، ولم يحدث هذا للشاعر ، فظل على حزنه ، ومن يسري بالشاعر فى عصرنا ؟! ، لذا لم يجد سوى الدعاء  :

يا رب

أسر بعبدك – ليلًا – من أغلال الحزن

اجعل لي مسرىً في هديك ص 30

لقد ارتبط الحزن عند الشاعر بالبعاد عن الوطن ، ومن قصائد الديوان قصيدة بعنوان " كلمات إلى الوطن المغترب " ومن العنوان يلجأ الشاعر إلى إحداث مفارقة ، فالشاعر المغترب عن وطنه ، قد جعل الوطن هو الغريب ، تعبيرًا عن رفضه للغربة الاضطرارية ،وأن ما حدث له كان جزاء " سنَّمار " فلايستحق هو ورفاقه هذا الجزاء ، وربما لشعوره بتشتت هذا الوطن ، وجاءت القصيدة مفعمة بكثير من الألفاظ والجمل التى تعبر عن الحزن ، فقد جعل الليل سرمديًّا ، يتوسد الحزن فيه ، وجعله دائما مقيمًا فى روحه ، ولا ينتظر الصباح ، ولكن رغم ذلك امتدادًا لما ذكرنا يجعل للحزن المعنى الإيجابى الجميل ، فالوطن أبعده عن جنته ، لكنه سيظل مندغم فيه حبًّا وعشقًا وتوحدًا ، فنحن لا نسكن الوطن ، بل هو الذي يسكننا  يقول :  

فالحزن يا وطني... دائم أبدي

وانت تجيىء ، وترحل عنا

وتسكن فينا  

وليس لنا نحن أن نسكنك  ص 32

هكذا نجد الذاتية تفرش ظلالها على الديوان ، غربة الشاعر  عن وطنه وارتباط الغربة بالحزن ( علاقة سببية ) شكَّل محور تجارب الشاعر في الديوان ، ففي القصيدة السابقة نجد كثيرًا من تجربته الذاتية في حياته ، تمسكه بمبدأه ، وحدوث ما يكن يتوقعه ، وثباته في الحياة دون تزعزع رغم عنف الموقف ، تحمل مسئولية قراره ،وقد عبر الشاعر عن هذه الموقف المزلزل في حياته ، حين خانته الظروف ، وحدث ما لم يكن فى الحسبان ، واضطر للرحيل ، في ثوب فني شفيف يوحي ولا يقرر ، ويوميء ولا يصرح ، وهذا من جلال الفن اعتماده على الإيحاء والتلميح ، يقول :

    يا وطني

حين فاجأتني جيوش الغزاة

أسرجت خيلي ​ص 33

وأشهرت  رمحي

وأشعلت نار التحدي

وألقيت قائدهم في البحار

وحين صحوت من الصمت

.....

فقمت حملت الأمانة

كانت تفلُّ الجبال

وتجري البحار بعيدًا  ص33 : 34

و قصيدة  " رسالة إلى أبي ذر" تعبر عن ملمحٍ من ملامح حياة الشاعر ، صنعته ظروفه الخاصة ، ألا وهو ثباته على مبدئه ، الذي جعله يجنح إلى الوحدة ، كما فعل أبو ذر الذي قال عنه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يعيش وحده ، ويموت وحده ، ويُحشر وحده ،وهذا من سمات الرجل الذي يتمسك بالحق ،ولا يحيد عنه ، فيجد كثيرًا من أفراد المجتمع ضده ، يقول مخاطبًا أبا ذرّ :

ستمشي وحيدًا

وحين يحاصرك القوم

تبقى وحيدًا

تقسم جسمك في كل ناحية

من نواحي القرى

وتبقى نخيل القرى

واشتعال الصباح

وتبقى بكل القلوب وريدًا

ويلمزك القوم

أو يقذفونك

من بعد ما كنت فيهم أمينا ص 42

ولكن يخون الشاعر بعد ذلك تمسكه بالإيحاء والتلميح ، فيذكر أنه سيهدد وعبر وسائل الإعلام المتعددة ، وتُصادر كلمته وحريته ، بل ومجيئه إلى وطنه ، ويُحمد للشاعر أن جعل من حياة أبي ذر بعثًا لحياة أفضل ، لإتيان ثورته بثمارها بعد ذلك :

وحين تموت تكون وحيدًا

لتبعث في كل ناحية من جديد ص 43

 

-5-

من القصائد التى تجسد ملحمة الغربة والحزن في الديوان  قصيدة " الركض إلى حدائق الأحبة " والتي تعدد ذكرياته ، وشوقه العارم لبلاده ، وارتباطه بكل شيء في وطنه ، أشجاره ومبانيه وحكايات الماضى مع الأحبة والأهل ، حتي الكائنات ، والفصول وظواهر الطبيعة لها في وطنه وقع خاص ، وشعور مدهش روحيًّا وجدانيًّا ، يقول :

أمرُّ أمرُّ

أرى صورة لحبيب

على جدران البيوت الحزينة

أو بقعة من دماء أخي

والقميص الممزق  لطفلي

وشارته المدرسية

.....

وهذا الطريق طويل

وكم حاولوا طمس كل المعالم فيه

فينبت تين جديد

وزيتونة من جديد

وطفل جديد

ونخل وسبع سنابل خضر ٍص 80

إن القصيدة برمتها معزوفة موسيقية شجية ، تتأوه حزنًا ومرارة وألمًا ، وتغري القارىء إنشادها في لهجة حزينة مؤسية ، بل وتفرض عليَّ أن أنقلها كاملة لولا طول المقتبس ، ومن القصائد التي تطربك في الحديث عن الشوق وآلام الغربة ، في ثوبها الذي يندُّ عن التقريرية والصوت العالي ،إنها معزوفة ألم هاديء ، تنفذ في أعماقنا أكثر حدة وسفرًا في الأعماق ، يقول :

ما زال جرح الأحبة ينزف

عطر الأحبة يأرج

والأفق يمتد

والسحب تسحب أذيالها

والنهارات عادت  تتوجني

بالضياء الجميل ...إلخ ص 82

ديوان وردة أخيرة للجرح ديوان جميل في أدائه الشعرى ، وأصالة صاحبه ، وتفرد الأداء الشعري به ،يدهشك النص بقصائده الشجية المطربة إيقاعًا ، العميقة دلالة ، البعيدة قيمة ،إنه ديوان جدير بالاحترام النقدي ، وتشتاق على قراءة ما بين حين وآخر ، وهناك كلمة بليغة تقرر أنك إذا اشتقت أن تقرأ كتابًا قرأته من قبل فأعجبك ،  فلا شك أنك قد قرأت كتابًا جميلًا ،لأنه ترك فى نفسك بصمة وأثرًا طيبًا ، وهذا ما يتصف به ديوان " وردة أخيرة للجرح "




Share To: