نظرة مقاصدية في فقه الأضحية | بقلم أ.د روحية مصطفى الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الأزهر


نظرة مقاصدية في فقه الأضحية | بقلم أ.د روحية مصطفى الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الأزهر


أولا : الأضحية سنة مؤكدة في حق الحي القادر عند جمهور أهل العلم، وهي شعار ظاهر ينبغي لمن قدر أن يحافظ عليها ، لمارواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه مااستطعتم " متفق عليه  ، وعن أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ من شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شيئا "  أخرجه مسلم  ، فقد تركها النبي صلى الله عليه وسلم لإرادة المسلم ورغبته ، وروي أن أبا بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يُقتدى بهما فيظن من رآهما أنها واجبة  ، وروي عن ابن عباس، أنه أعطى عكرمة درهمين ، وأمره أن يشري بها لحماً ، وقال : من سألك عن هذا فقل : هذه أضحية ابن عباس. 

ثانيا : الأضحية تكون من الضأن ( الخراف ) إذا بلغت ستة أشهر ، أو الماعز إذا بلغ سنة ، والبقر ومثله الجاموس إذا بلغ عامين ، والإبل ( الجمال ) إذا بلغت خمس سنوات ، علي الراجح من خلاف الفقهاء في السن المعتبر شرعا ، شريطة أن تكون خالية من العيوب المؤثرة في اللحم ، ولا يجوز الأضحية بالطيور كالبط والدجاج والأوز ، فمن فعل ذلك فإنما هي لحم يطعمه لأهله وصدقة ،  والحكمة من اعتبار هذا السن في الأضحية هي أن تكون الأنعام في وقت يتوافر بها لحم طيب ؛ لإدخال السعة على أهل البيت والمحتاجين ، إذن القصد هو تحقيق المصلحة لا شيء آخر يخص الذبيحة ككونها صغيرة ، وإلا لما شرع ذبح مولود الأضحية معها إذا ولدت قبل الذبح ، ويشترك في البقر والجاموس والإبل سبعه ، ولا يمنع أن ينوي بعضهم الأضحية وبعضهم العقيقة ، وبعضهم العقيقة والأضحية ، وبعضهم اللحم فقط ، فلكل امريء مانوى ، كما يجوز لمن لم يملك ثمن الأضحية والعقيقة منفردتين أن يجمعهما في ذبيحة واحدة تيسيرا على المضحي ، ويثاب عليهما بإذن الله تعالى على ماذهب إليه الشافعية في رواية وكذا الحنابلة  .

ثالثا : إذا كان المسلم قادرا على سنة الأضحية فالأولى له أن يُضحي اتباعا للسنة ، أما إن كان مُحتاج لثمنها لإعانة محتاج في نفقات أسرته أو تربية أولاده أو معالجة مريض فالأولى دفع ثمنها إليهم ، ليستعين بها المريض على استرداد صحته التي بتوافرها يعبد الله تعالى ويذكره ويسعى في الأرض ، ويستعين بها المحتاج في قضاء حوائجه وحوائج من يعول ، ولصاحب المال أجر في كل ذلك لا ينقطع بعون الله تعالى ، فضلا عن أنها تفرج عن الإنسان كُرب يوم القيامة .

رابعا : الأولى للمضحي مراعاة سن الأضحية الذي نص عليه النبي صل الله عليه وسلم في الظروف الطبيعية ، أما في الحيوانات التي ينمو بها اللحم في وقت قبل السن المعتبر وهي مايُطلق عليها حديثاً " عجول التسمين " وهي التي يُوضع لها في نظامها الغذائي مواد تساعد في تسيمنها في وقت قصير ، فإن الأضحية بها جائزة تحقيقاُ للمصلحة المعتبرة وهي أحد مقاصد الأضحية ؛ لأنه قد يتعذر على المضحي في وقتنا الحالي وجود السن المعتبرة لانتشار العجول المسمنة ، فضلا عن أن أصحاب مزارع الحيوانات في الغالب لا يحتفظون بالعجول إلا لأشهر معدود قد لا تتعدى العام على الأكثر ثم يعرضونها للبيع ؛ نظراُ للطلب عليها في الأسواق بشكل عام هذا من جانب ، ومن جانب آخر ارتفاع أسعار الأعلاف والذي يترتب عليه خسارة لأصحاب المزارع إذا حبسوها لسنتين أو أكثر ؛ لذا نقول إذا كانت العجول المسمنة التي لم تصل إلى السن المعتبرة التي حددها النبي صل الله عليه وسلم في الظروف الطبيعية لحمها وفير يساوي لحم الحيوان الذي بلغ سن الأضحية ،ولا تؤثر هذه الوسيلة على طيب اللحم ، ويحقق السعة على أهل المضحي والمحتاجين ، ولا يترتب على تناول لحمها ضررا للمستهلك بشهادة أهل التخصص ، فلا حرج فيه شرعا تيسيرا على الناس ، والأمور بمقاصدها ، حيث أن حكم المسألة يدور على المصلحة المعتبرة ، وهي متحققة في هذه الصورة بإذن الله تعالى .

خامساً : إذا أراد المسلم رجلا كان أو امرأة أن يضحي عن نفسه وآل بيته فيمسك هو وحده عن شعره وأظافره ، بدخول العشر من ذي الحجة تحصيلا للسنة ، ويشمل الشعر الرأس والإبط والعانة وكل شعر على البدن ، وإن تعذر ذلك لمشكلة صحية أولارتباط هيئته بمتطلبات عمله كرجال الجيش والشرطة وغيرهم فلا حرج بإذن الله تعالى ؛ لأن الإتيان بهذه السنة مقيد بالاستطاعة ، ولو أخذ المضحي من شعره وأظفاره ناسيا فلا حرج عليه لعموم رفع الحرج عن الناسي ، وإن أخذه عامدا دون عُذر فقد أساء لتركه السنة دون عذر، وعليه أن يستغفر الله تعالى ، وليس فيه كفارة ، وأضحيته صحيحه .

سادسا : الأصل أن يُضحي المسلم في بلده التي يعيش فيها ، ويوزع من لحمها على المحتاجين من أهل بلده قياساُ على الزكاة ، ولكن لو ظهرت مصلحة أو دعت حاجة إلى نقل الأضحية إلى بلد آخر يوجد فيه من هو أشد احتياجا للأضحية أو الزكاة فيجوز نقلها بل هو أولى  ؛ فقد نقل معاذ بن جبل رضي الله عنه جزء من زكاة المال من اليمن إلى المدينة المنورة وأقره رسول الله صل الله عليه وسلم على ذلك ؛ لأنه وضع له القاعدة التي يستند إليها وهي أن يفتي بكتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسول الله فإن لم يجد يجتهد في ضوء تحقيق المصلحة المعتبرة ، وهي أهم مقاصد الشريعة ، قال طاووس : قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن : " ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم ، وخير لأصحاب النبي صل الله عليه وسلم بالمدينة . أورده البخاري معلقا في كتاب الزكاة ، باب العرض في الزكاة .

سابعاً : إذا كان المسلم في بلد لا يتم فيها الذبح بطريقته الشرعية وأحب أن يُضحي ، فيُمسك عن شعره وأظافره ويرسل ثمنها إلى أهله وينيبهم في الأضحية عنه بعد صلاة العيد عندهم . 


ثامناً :  إذا أراد الأب أن يُضحي عن أولاده المتزوجين ، فإن كانوا يعيشون مع أبيهم في بيت واحد فيكفي أُضحية واحدة مهما كثُر عددهم ، وإن كان الولد معزولا عن أبيه في بيت مستقل فُيضحي عن نفسه إذا كان قادرا عليها ، ولو أراد الأب أن يضحي عنهم جميعا فرعاية لحق الوالد ومن باب خفض الجناح له تُجزيء أضحيته عنهم جميعا ، لأنهم وإن لم يسكنوا في بيت واحد فهم أهل بيت واحد . 

تاسعاً : يجوز للمرأة ذبح أُضحيتها كالرجل وسواء كانت المرأة طاهراً أو حائضاً ؛ لأن الطهارة ليست شرطاً من شروط صحة الذبح ، والأفضل لها التوكيل في الذبح .لماروي عن جَابِرٍ قال : ذَبَحَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن عَائِشَةَ بَقَرَةً يوم النَّحْرِ  .أخرجه مسلم ، ويُسن للمضحي رؤية أضحيته عند الذبح ماأمكن ، فإن تعذر عليها ذلك فلا حرج .

عاشراً : يضحي الرجل أو المرأة عن نفسه وآل بيته بأضحية واحدة مهما كثُر عددهم ، حتى ولو كان معهم خادما أو خادمة تُجزيء عن الجميع  ومن لم يقدر على الأضحية فقد ضحى عنه النبي صل الله عليه وسلم حيث قال عند أضحيته : " اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد " أخرجه مسلم ، ويجوز للمسلم أن يُضحي عن غيره على سبيل التطوع والهبة ، كأن يضحي عن أستاذه  أو أخوه أو أخته أو جاره شريطة أن يستأذنه في ذلك طالما كان على قيد الحياة  على ماذهب إليه الشافعية، وهو من التعاون على البر والتقوى ، كما أن المصلحة فيه ظاهرة وهي التوسعة على الأهل والمحتاجين .

حادي عشر: تجوز الأضحية عن الميت على ماذهب إليه الحنفية والحنابلة ، ويصله ثوابها؛ لأنها ضرب من الصدقة ، والصدقة تصح عن الميت وتنفعه وتصل إليه بالإجماع ، لماروى عن عَلِيٍّ أَنَّهُ كان يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَحَدُهُمَا عن النبي صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ عن نَفْسِهِ فَقِيلَ له : فقال : أَمَرَنِي بِهِ يَعْنِي النبي صلى الله عليه وسلم فلا أَدَعُهُ أَبَدًا   قال البيهقي : إن ثبت هذا كان فيه دلالة على صحة التضحية عن الميت  ، وإذا أوصى الميت ورثته أن يضحو عنه فيجب عليهم ذلك من تركته في الثلث قبل توزيع الميراث ، هذا إن كان له مالا ، ويجوز لهم الأكل منها وإطعام غيرهم على ماذهب إليه المالكية والحنابلة ،  وإن لم يكن له مال وتركوها لعدم القدرة عليها فلا حرج عليهم . 

ثاني عشر :لا يوجد في تقسيم الأضحية نص معتبر ، وإنما المُراعى فيها تحقيق المصلحة ؛ لأن الهدف منها هو إراقة دم لله تعالى ، والتوسعة على الأهل والأقارب والمحتاجين ، فلو جمع المضحي بين كل هذه المقاصد كان أكمل وأولى ، ولو اقتصر على بعضها أجزأه ، ويشرع للمضحي أن يستعمل لحم أضحيته في وليمة العرس ولو بعد أيام التشريق طالما وقع الذبح في يوم العيد أو أيام التشريق الثلاثة ؛ لأن العبرة في الأضحية بالذبح وقد وقع في وقته ، أما توزيع اللحم فلم يقيده الشرع بوقت محدد ، بل جعل العبرة في ذلك مراعاة المصلحة . قال النفراوي : " لو فعل بأضحيته سنة عرسه أجزأه " ، كما يُستحب للمسلم أن يُعطي من أضحيته لجيرانه من أهل الكتاب ؛ إبرازا لسماحة الإسلام وتحقيقا لمقصده في التعايش والتكافل والتراحم داخل المجتمع ، وهذا من البر والقسط إليهم المأمور به شرعا  . 

ثالث عشر : يجوز ذبح الأضحية ليلا أو نهاراً ؛ لانتفاء علة النهي عن الذبح ليلا وهو خوف الخطأ في الذبح لضعف الرؤية ، أو تغير لحمها لو باتت للصباح وقد انتفت هذه العلل بوجود الكهرباء والثلاجات لحفظ اللحم من الفساد .

رابع عشر : إذا كانت الأضحية حامل وولدت قبل الذبح تُذبح وابنها معها ؛ لأنه تبع لها ، ويجوز للمضحي أن ينتفع بلبنها قبل الذبح إذا فضل عن ولدها على ماذهب إليه الشافعية والحنابلة. 

خامس عشر : إذا سُرقت الأضحية أو ماتت أو ضلت قبل يوم الأضحى فليس على صاحبها بدل ولا ضمان ، على ماذهب إليه الشافعية والحنابلة  .

سادس عشر : من السنة أن تكون الأضحية سليمة خالية من العيوب التي ذكرها أهل العلم ، فإذا اشترى المسلم أضحية بهذا التحري، وبعد شرائها وقبل الذبح مرضت أو جُرحت أو كُسرت ، فيضحي بها ولا حرج عليه لأنه غير مفرط ، كما أنه احتاط عند شرائها فلا يضره ماطرأ عليها من نقص بعد الشراء على الراجح من خلاف العلماء ، شريطة أن يكون المرض غير مؤثر في طيب اللحم أو يترتب على تناوله ضرر  .

سابع عشر : الله تعالى لم يكلف نفسا فوق طاقتها ، ومع ذلك من أحب أن يضحي ولو بالاستدانة فلا حرج عليه طالما كان يغلب على ظنه القدرة على السداد  على ماذهب إليه متأخري الحنابلة وإن كان الأولى تركها . 

ثامن عشر :  لا يجوز للمضحي بيع أي جزء من أجزاء الأضحية ولو كان جلدها بل يتصدق به ،أو ينتفع به ،  ولا يُعطيه للجزار مقابل الذبح ولكن يجوز على وجه التصدق والهبة ، ولو باع المضحي أي جزء من الأضحية يتصدق بثمنه . لقول الله تعالى : ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الْفَقِيرَ )   الحج 28،  فنص الحق سبحانه وتعالى على أكله وإطعامه ، فدل على تحريم بيعه   ، ويجوز لمن أخذ من لحم الأضحية أن يتصرف فيه كيفما يشاء ، فله أن يأكلها ، ولو احتاج لبيعه فله ذلك ، لأنه يتصرف فيما يملك . 

تاسع عشر : أما مايخص الجزار، فعليه أن يسمي الله تعالى ، ويُستحب الصلاة والسلام على رسولنا الأكرم صل الله عليه وسلم ، و لا يحد السكين والبهيمة تنظر إليه ،ولا يذبح البهيمة والأخرى تنظر إليه ، ولا يؤلمها قبل الذبح بالضرب أو كسر بعضها  ، و أن يُضجعها على جانبها الأيسر ويوجهها للقبلة ، ويضع رجله على صفحة العنق ويقول : " بسم الله والله أكبر ، هذا منك وإليك ، اللهم تقبل هذا عن فلان ، و إذا أخطأ الجزار وسلم المُضحي أُضحية غير اُضحيته فلا حرج وتُجزيء كل واحدة عن الأخرى ، فالخطأ والنسيان مرفوع عن الأمة ، ولا يأخذ من الأضحية شيئا مقابل ذبحها أو سلخها ؛ لأن هذه العطية مقابل العمل فتكون في معنى بيع صاحبها جزء منها ، إلا إذا أعطاه على سبيل الصدقة إن كان محتاجاً أو هدية إن كان مستغنياً ، وهو أولى بها لأنه تولى ذبحها وتاقت نفسه إلى لحمها .

عشرون :  يجوز للجزار تخدير الأضحية قبل ذبحها لإضعاف مقاومتها عند الذبح شريطة ألا يؤدي التخدير إلى إزهاق روحها  قبل الذبح بصورة شرعية ، حتى إذا تُركت دون ذبح لم تفقد حياتها ، والمصلحة ظاهرة في تخدير الحيوان قبل الذبح فهو يدخل في باب الإحسان والرفق بالحيوان وعدم إيلامه عند الذبح وهو مقصد أرشدت إليه السنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التسليم  .       والله تعالى أعلى وأعلم .




Share To: