المتحف | قصة بقلم الكاتب والباحث الجزائري: محمد بصري
وقف شاردًا أمام لوحةٍ قديمة جدًا. تشرح تفاصيل حصان آشوري بلمسة تكعيبية في متحف عتيق متهالك ورثه أصحابه عن عائلة مولعة باصطياد التحف والهدايا المُعَتّقة بالتاريخ الُمنهكة بفتور الصمت.فضاء المزار الفني كان مكانًا قاصيا بشرق بيروت.كل القطع كانت تفوح منها روائح الماضي، تماثيل من شجر السنديان والأرز اللبناني، صور هنا وهناك تُؤرخ لزمن العربدة العربي بالأبيض والأسود فالحياة جميلة بلونين باهتة وساذجة وبريئة ... كل الزوار لم تُعِرهم اللوحة الموقوفة الصامتة والماكثة اهتماما في ركن كئيب من المتحف إلا هذا الشاب الكث اللحية وقد بدا عليه الإعياء و الوجع، ثلاثيني بلباس التمرُد في السبعينيات قبعة ثورية تتوسطها نجمة خماسية تشبه تلك التي كان يضعها تشي غيفارا وهو يُلهب الجماهير بخطابات نارية صادمة للشعور الإمبريالي. بنطالون فتنامي وقميص أحمر .الهيئة بالكاد إيديولوجية تُفصح عن الانتماء الطبقي والشيوعي للفتى ...جلس مُترنِحا فوق كرسي خشبي يعود إلى فترة الاستعمار الفرنسي يُحملق في اللوحة ويتتبع كل مداخلها وأشكالها، أشعل سيجارة من تبغ أسود ركيك مرّ المذاق لا نكهة فيه وتَـــــــنهّد ..عدَّل من عدسات نظاراته بيدين مرتعشتين وقفز إلى أرضية المتحف في وضعية جلسة القرفصاء .أمعن جيدا في اللوحة يبدو أن هذه التحفة المُهملة مارست عليه غواية مومس فاتنة .كانت بتوقيع غريب لرسام مجهول فهو يعرف تماما أصول التحف الفنية، خاصة الرسوم والمنحوتات نظرا لطبيعة اختصاصه وشهادة تخرجه من معهد بغدادي عراقي للفنون . كان الجو باردًا في الخارج حبيبات من المطر تلتصق بزجاج نوافذ الصالة الكبيرة للمتحف. تنزلق بقوة وهي تحت وقع سياط ريح خفيفة تعبث بها .كانت هذه الأشكال المبعثرة لصراع زخات المطر مع رياح الشتاء تشكيلة فنية أضيفت إلى القطع النادرة في المتحف ..
هناك سرٌ ما في اللوحة .غموضها اللامُبرر والمُتَعمد بتفاصيل تكعيبية وألوان آنارشية وأخرى عميقة وأساسية الصورة اليائسة لفارس غامض يقبع فوق صهوة الحصان البابلي وهو يحمل درعا دون خوذة فوق رأسه. الرأس الدقيق للجواد يجعله أصيلا متميزا من سلالات كنعانية ضاربة في القدم .كان الزائر الغريب الأطوار منسجما شاردًا ثابتا وكأنه يُسبِّح ويمارس صلاة وقداس و طقوس غريبة في معبد بوذي .لا يمكنك أن تسمع إلا طقطقة كواعب الأحذية لنساء ورجال جمعهم الفضول ونشوة الكشف وأحيانا الرياء.بعض السيدات المنتشيات بقاماتهن العربية وسحرهن الشرقي. الجمال اللبناني وما أدراك ما لبنان الأصول التَغْلِبية والغسانيات الفارهات الطول واللواتي بعيونهن حورٌ كن يفتشن عن رسومات للزينة تتبرج بها صالونات وغرف الضيوف وأخريات لا يجلبهن في زيارة أمكنة ثقافية غير التباهي والبريستيج الاجتماعي.قلة من يستهويهم روح المتحف فهو نافذة الروح على الماضي والفن.لا يفقه فلسفة المعارض الفنية و انزياحاتها إلا من امتزجت أرواحهم بفعل التثاقف والتماهي مع الطبيعة الانسانية.لن نكون إنسانويين إلا إذا اعتدنا على فهم طبيعة ذواتنا من خلال علاقاتها بالكون والوجود والفن. المتحف هو فضاء التجلي الإنساني فسحة للإطلالة على البعد الثالث في الكائن البشري الذي تلوث بالتقنية والنفط والفيول .قد تسمع همسا من هناك ووشوشات. هو ضد الصخب يافعات يتقاسمن ابتسامات أُرستقراطية مع مثيلاتهن في أروقة الدار وشباب يفتش عن اللحظة المثالية لإقناع الذات بتوفر إرادة المعرفة ولاقتناص هنيهات المتعة الفنية.وربما لبصبصة عابرة تنتشي بها الغرائز مؤقتا.
في عمق الصورة كانت هناك رمزية مسكوت عنها مُــــــــبهمة ورمزية هي شبيهة بصوفانية غامضة.بدأت الحركة تتناقص والأصوات تخفت والزوار يتراجعون فمدة إقفال الأبواب اقتربت .الشمس تقف في كبدِ السماء إيذانا بظهيرة ملتهبة الساعة الثانية .صاحبة الدار تقف في وسط القاعة يعلو وجهها البيروقراطي إبتسامة ثلج باردة مُفتعلة تُعبِّر عن رغبة في أن يغادر ما بقي من الزوار . يوم حافل بالتعب والعدمية.تعقب الآثار والفنون لم يكن بذلك الصخب الذي كانت تتوق وتنشده العارضة.رغم أصالة ونُدرة قطعها الفنية .
استأذن الشاب المرأة الستينية المشرفة وفاجأها بطلب مثير وغريب.
سيدتي : وضعية هذه اللوحة غير دقيقة ومعكوسة لقد عبث بها التقني الذي ثبتها في هذا الركن البائس.لم يُحسن قراءة دلالاتها .
حاولت السيدة أن تستوضح هذا الجنون والتدخل المريب في أداء الموظفين والقائمين على تنظيم وترتيب وتصنيف المعروضات.
كيف ذلك أيها الشاب؟.
لم ينتظر كثيرا واستسمحها أن يعيد وضع اللوحة بشكل مغاير بحيث تستقر بشكل مقلوب عن الوضعية الأولى.
سيدتي : القماش الأصيل الذي رسمت فوقه الأشكال يجب عكسه بحيث تصبح خلفيته هي الواجهة وتعريضها للضوء ربما يفصح عن هويتها الحقيقية .
السيدة :ماذا تقول أتعتقد أن اللوحة مريبة تم العبث بشكلها؟؟.
الفتى : لا سيدتي لقد تم إلصاقها بعناية وترتيبها بهذا الشكل خوفا من الرقابة.
السيدة : ربما.... فقد أهداها لي شيخ سوري .فقد طُمرت في النسيان في مخزن له ببيته. هو شيخ يعاني الخرف ولا يكاد يتذكر شيئا.نصحني بعض المتخصصين بعرضها لأن لها قيمة تاريخية فقد رُسمت في بدايات القرن العشرين.
لم تتلكأ المرأة وسمحت بذلك.عمد الشاب الفنان إلى قَلبِها لتكون المفاجأة. لقد كان شكل الفارس والحصان الآشوري خارطة للعالم العربي وهو يتآكل. رأس الفرس كان فلسطين .درع الفارس كان العراق. وهو يتحول إلى شعلة من الركام والانفجارات والثغرات والبؤر المشتعلة .حطام درع.قلب الفرس كان أحمرا يختزل صورة لبنان وتضاريسه .مياه وشكل مستطيل يغرق يوحي دلاليا ورمزيا على تضاريس وهيئة مصر وهي تغرق. ظهر الحصان في مؤخرته كان لسوريا بها تشققات رمادية مخلوطة بلون ناقع أسود ودموي .الكواعب الخلفية للحصان تجمُع دول المغرب العربي والنيران تمتد لها.
وقفت السيدة مشدوهة أمام الصورة المزدوجة التي مارست تخفيا وتجليا.أدركت أنها اللوحة الوحيدة النادرة والمؤثرة في ثروتها الفنية.قالت بصوت خفي .يالله .يارب رسمها صاحبها في العشرينيات من القرن الماضي ولم ندرك الفاجعة إلا ونحن في الثلث الأول من العصر الجديد.
لن أبيعها....أبدا..... ضغط الفتى بحذائه السميك على ما تبقى من كعب سيجارته وغادر الدار وترك المرأة جاثمة مرتبكة أمام تآكل العالم العربي.
Post A Comment: